سورة الأعراف آية 0054 – 01921 م – تفسير أيسر التفاسير – تفسير أبو بكر الجزائري


* تفسير أيسر التفاسير/ أبو بكر الجزائري (مـ1921م- ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


وَلَقَدْ جِئْنَـٰهُم بِكِتَـٰبٍ فَصَّلْنَـٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٥٢ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُۥ ۚ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُۥ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُوا۟ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا۟ يَفْتَرُونَ ﴿٥٣ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّـهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍۭ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ ٱللَّـهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿٥٤

شرح الكلمات:

ولقد جئناهم: أي أهل مكة أولاً ثم سائر الناس.

بكتاب: القرآن العظيم.

فصلناه على علم: بيناه على علم منَّا فبيّنا حلاله وحرامه ووعده ووعيده وقصصه ومواعظه وأمثاله.

تأويله: تأويل ما جاء في الكتاب من وعد ووعيد أي عاقبة ما أنذروا به.

وضل عنهم: أي ذهب ولم يعثروا عليه.

في ستة أيام: هي الأحد إلى الجمعة.

يغشي الليل النهار: يغطي كل واحد منهما الآخر عند مجيئه.

حثيثاً: سريعاً بلا انقطاع.

مسخرات: مذللات.

ألا: أداة استفتاح وتنبيه (بمنزلة ألو للهاتف).

له الخلق والأمر: أي له المخلوقات والتصرف فيها وحده لا شريك له.

تبارك: أي عظمت قدرته، وجلت عن الحصر خيراته وبركاته.

العالمين: كل ما سوى الله تعالى فهو عالم أي علامة على خالقه وإلهه الحق.

معنى الآيات:

بعد ذلك العرض لأحوال الناس يوم القيامة ومشاهد النعيم والجحيم أخبر تعالى أنه جاء قريشاً لأجل هدايتهم بكتاب عظيم هو القرآن الكريم وفصّله تفصيلاً فبينّ التوحيد ودلائله، والشرك وعوامله، والطاعة وآثارها الحسنة والمعصية وآثارها السيئة في الحال والمآل وجعل الكتاب هدى أي هادياً ورحمة يهتدي به المؤمنون وبه يرحمون.

هذا ما تضمنته الآية الأولى [52] وهي قوله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وأما الآية الثانية [53] فقد استبطأ الحق تعالى فيها إيمان أهل مكة الذين جاءهم بالكتاب المفصّل المبيَّن فقال: { هَلْ يَنظُرُونَ } أي ما ينظرون { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي عاقبة ما أخبر به القرآن من القيامة وأهوالها، والنّار وعذابها، وعندئذ يؤمنون، وهل ينفع يومئذ الإِيمان؟ وهاهم أولاء يقولون { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } وينكشف الغطاء عما وعد به، { يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ } أي قبل وقوعه، وذلك في الحياة الدنيا، نسوه فلم يعملوا بما ينجيهم فيه من العذاب يقولون: { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ } اعترفوا بما كانوا به يجحدون ويكذبون ثم يتمنون ما لا يتحقَّق لهم أبداً فيقولون: { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ } إلى الدنيا { فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } من الشرك والشر والفساد. وتذهب تمنياتهم أدراج الرياح، ولم يُرعْهُمْ إلا الإِعلان التالي: { قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } خسروا أنفسهم في جهنم، وضاع منهم كلَّ أمل وغاب عنهم ما كانوا يفترون من أنَّ آلهتهم وأولياءهم يشفعون لهم فينجونهم من النار ويدخلونهم الجنة.

وفي الآية الأخيرة يقول تعالى لأولئك المتباطئين في إيمانهم { إِنَّ رَبَّكُمُ } الذي يُحبُّ ان تعبدوه وتدعوه وتتقربوا إليه وتطيعوه { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } هذا هو ربكم الحق وإلهكم الذي لا إله لكم غيره، ولا ربَّ لكم سواه، أمّا الأصنام والأوثان فلن تكون ربّاً ولا إلهاً لأحد أبداً لأنّها مخلوقة غير خالقة وعاجزة عن نفع نفسها، ودفع الضّر عنها فكيف بغيرها؟ إنّ ربَّكم ومعبودكم الحقّ الذي له الخلق كلّه ملكاً وتصرفاً وله الأمر وحده يتصرف كيف يشاء في الملكوت كله.

علويّه وسفليّه فتبارك الله رب العالمين.

هداية الآيات

من هداية الآيات:

1- لا ينفع الإِيمان عند معاينة الموت والعذاب كما لا ينفع يوم القيامة.

2- يحسن التثبت في الأمر والتأني عند العمل وترك العجلة، فالله قادرٌ على خلق السمَّاوات والأرض في ساعة ولكن خلقها في ستة أيام بمقدار أيام الدّنيا تعليماً وإرشاداً إلى التثبت في الأمور والتأني فيها.

3- صفة من صفات الرب تعالى التي يجب الإِيمان بها ويحرم تأويلها أو تكييفها وهي استواؤه تعالى على عرشه.

4- انحصار الخلق كلّ الخلق فيه تعالى فلا خالق إلا هو، والأمر كذلك فلا آمر ولا ناهي غيره. هنا قال عمر: من بقي له شيء فليطلبه إذ لم يبق شيء ما دام الخلق والأمر كلاهما لله.

سورة الأعراف آية 0054 – إعراب القرآن – قاسم دعاس


إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ) إن واسمها ولفظ الجلالة خبرها.
(الَّذِي) اسم موصول في محل رفع صفة.
(خَلَقَ السَّماواتِ) فعل ماض ومفعوله (وَالْأَرْضَ) عطف (فِي سِتَّةِ) متعلقان بالفعل خلق (أَيَّامٍ) مضاف إليه.
(ثُمَّ) عاطفة وجملة (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) معطوفة، (يُغْشِي) فعل مضارع.
(اللَّيْلَ) مفعول به أول (النَّهارَ) مفعول به ثان والجملة في محل نصب حال وكذلك جملة (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) حال.
(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ) عطفت على السموات والأرض…
(مُسَخَّراتٍ) حال منصوبة بالكسرة لأنها جمع مؤنث سالم.
(بِأَمْرِهِ) متعلقان بمسخرات (أَلا) أداة استفتاح.
(لَهُ) متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
(الْخَلْقُ) مبتدأ (وَالْأَمْرُ) عطف (تَبارَكَ اللَّهُ) فعل ماض جامد ولفظ الجلالة فاعله.
(رَبُّ) صفة أو بدل (الْعالَمِينَ) مضاف إليه مجرور بالياء، والجملتان مستأنفتان.

48 – باب معنى قول الله عزوجل


48 – باب معنى قول الله عزوجل

(الرحمن على العرش استوى)
1 – حدثنامحمد بن علي ماجيلويه رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن سهل بن زياد الآدمي، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن مارد أن أبا عبدالله عليه السلام سئل عن قول الله عزوجل: (الرحمن على العرش استوى) فقال: استوى من كل شئ، فليس شئ هو أقرب إليه من شئ.
2 – أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبدالله، عن محمد بن الحسين(1) عن صفوان بن يحيى، عن عبدالرحمن بن الحجاج، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزوجل: (الرحمن على العرش استوى(2)) فقال: استوى من كل شئ، فليس شئ أقرب إليه من شئ، لم يبعد منه بعيد، ولم يقرب منه قريب، استوى من كل شئ(3).
___________________________________
(1) في نسخة (ط) وحاشية نسخة (ن) و (ه‍) (عن محمد بن الحسن).
(2) طه: 5.
(3) استعمل الاستواء في معان: استقرار شئ على شئ وهذا ممتنع عليه تعالى كما نفاه الامام عليه السلام في أخبار من هذا الباب لانه من خواص الجسم.
والعناية إلى الشئ ليعمل فيه، وعليه فسر في بعض الاقوال قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء).
والاستيلاء على الشئ كقول الشاعر: ***فلما علونا واستوينا عليهم * تركناههم صرعى لنسر وكاسر*** والاية التي نحن فيها فسرت به في بعض الاقوال وفي الحديث الاول من الباب الخمسين.
والاستقامة، وفسربها قوله تعالى: (فاستوى على سوقه) وهذا قريب من المعنى الاول.
والاعتدال في شئ وبه فسر قوله تعالى: (ولمابلغ أشده واستوى).
والمساواة في النسبة، وهي نفيت في الآيات عن أشياء كثيرة كقوله تعالى: (وما يستوى الاحياء ولا الاموات) وفسر الامام عليه السلام الاية بها في هذا الباب وظاهره مساواة النسبة من حيث المكان لانه تعالى في كل مكان وليس في شئ من المكان بمحدود، ولكنه تعالى تساوت نسبته إلى الجميع من جميع الحيثيات، وانما الاختلاف من قبل حدود الممكنات، ولا يبعد الروايات من حيث الظهور عن هذا المعنى.

[316]
3 – حدثنا أبوالحسين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسي، قال: حدثنا أحمد بن محمد أبوسعيد النسوي، قال: حدثنا أبونصر أحمد بن محمد بن عبدالله الصغدي بمرو(1) قال: حدثنا محمد بن يعقوب بن الحكم العسكري وأخوه معاذ بن يعقوب، قالا: حدثنا محمد بن سنان الحنظلي، قال: حدثنا عبدالله بن عاصم، قال: حدثنا عبدالرحمن بن قيس، عن أبي هاشم الرماني، عن زاذان، عن سلمان الفارسي في حديث طويل يذكر فيه قدوم الجاثليق المدينة مع مائة من النصارى بعد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسؤاله أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها، ثم ارشد إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فسأله عنها فأجابه، وكان فيما سأله أن قال له: أخبرني عن الرب أين هو وأين كان؟ فقال علي عليه السلام: لايوصف الرب جل جلاله بمكان، هو كما كان، وكان كما هو، لم يكن في مكان، ولم يزل من مكان إلى مكان، ولا أحاطة به مكان، بل كان لم يزل بلاحد ولا كيف، قال: صدقت، فأخبرني عن الرب أفي الدنيا هو أوفي الآخرة؟ قال علي عليه السلام: لم يزل ربنا قبل الدنيا، ولايزال أبدا، هو مدبر الدنيا، وعالم بالآخرة، فأما أن يحيط به الدنيا والآخرة فلا، ولكن يعلم مافي الدنيار، والآخرة، قال: صدقت يرحمك الله، ثم قال: أخبرني عن ربك أيحمل أو يحمل؟ فقال علي عليه السلام: إن ربنا جل جلاله يحمل ولايحمل، قال النصراني: فكيف ذاك؟ ! ونحن نجد في الانجيل (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) فقال علي عليه السلام: إن الملائكة تحمل العرش، وليس العرش كما تظن كهيئة السرير، ولكنه شئ محدود مخلوق مدبر، وربك عزوجل مالكه، لا أنه عليه ككون الشئ على الشئ، وأمر الملائكة بحمله، فهم يحملون العرش بما أقدرهم عليه، قال النصراني: صدقت رحمك الله – والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، وقد أخرجته بتمامه في آخر كتاب النبوة -.
4 – حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن بعض

___________________________________
(1) الصغد بالضم فالسكون قرى بين بخارا وسمرقند.
[317]
رجاله رفعه، عن أبي عبدالله عليه السلام أنه سئل عن قول الله عزوجل: (الرحمن على العرش استوى) فقال: استوى من كل شئ، فليس شئ أقرب إليه من شئ.
5 – حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله قال: حدثنا الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: من زعم أن الله عزوجل من شئ أوفي شئ أو على شئ فقد كفر، قلت: فسر لي، قال: أعني بالحواية من الشئ له، أو بإمساك له، أو من شئ سبقه.
6 – وفي رواية اخرى قال: من زعم أن الله من شئ فقد جعله محدثا، ومن زعم أنه في شئ فقد جعله محصورا، ومن زعم أنه على شئ فقد جعله محمولا.
7 – حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال: حدثنا عبدالله بن جعفر، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، قال: حدثني مقاتل بن سليمان، قال: سألت جعفر بن محمد عليهما السلام، عن قول الله عزوجل: (الرحمن على العرش استوى) فقال: استوى من كل شئ، فليس شئ أقرب إليه من شئ.
8 – وبهذا الاسناد، عن الحسن بن محبوب، عن حماد، قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: كذب من زعم أن الله عزوجل من شئ أو في شئ أو على شئ.
9 – حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله، عن عمه محمد بن أبي القاسم، عن أحمد ابن أبي عبدالله، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: من زعم أن الله عزوجل من شئ أو في شئ أو على شئ فقد أشرك، ثم قال: من زعم أن الله من شئ فقد جعله محدثا، ومن زعم أنه في شئ فقد زعم أنه محصور(1)، ومن زعم أنه على شئ فقد جعله محمولا.
قال مصنف هذا الكتاب: إن المشبهة تتعلق بقوله عزوجل (إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا)(2) ولاحجة لها في ذلك لانه عزوجل عنى بقوله: (ثم استوى على
___________________________________
(1) في نسخة (ج) (ومن زعم أنه في شئ فقد جعله محصورا).
(2) الاعراف: 54.
[318]
العرش) أي ثم نقل إلى فوق السماوات وهو مستول عليه ومالك له، وقوله عزوجل: (ثم) إنما لرفع العرش إلى مكانه الذي هو فيه ونقله للاستواء فلا يجوز أن يكون معنى قوله: (استوى) استولى لان استيلاء الله تبارك وتعالى على الملك وعلى الاشياء ليس هوبأمر حادث، بل لم يزل مالكا لكل شئ ومستوليا على كل شئ، وإنما ذكر عز وجل الاستواء بعد قوله: (ثم) وهو يعنى الرفع مجازا، وهو كقوله: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين)(1) فذكر (نعلم) مع قوله: (حتى) وهو عزوجل يعني حتى يجاهد المجاهدون ونحن نعلم ذلك لان حتى لايقع إلا على فعل حادث، وعلم الله عزوجل بالاشياء لايكون حادثا، وكذلك ذكر قوله عزوجل: (استوى على العرش) بعد قوله: (ثم) وهو يعني بذلك ثم رفع العرش لاستيلائه عليه، ولم يعن بذلك الجلوس واعتدال البدن لان الله لايجوز أن يكون جسما ولا ذا بدن، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.(2)
___________________________________
(1) محمد صلى الله عليه وآله وسلم: 31.
(2) حاصل مراده رحمه الله أن (ثم) لايتعلق بقوله (استوى) لانه بمعنى استولى و استيلاؤه تعالى على العرش لايكون متأخرا عن خلق السماوات والارض لانه مالك ملك مستول على كل شئ أزلا، بل يتعلق بمحذوف تقديره ثم نقل العرش إلى فوق السماوات لانه استوى عليه، وأخذ هذا التفسير من الحديث الثاني من الباب التاسع والاربعين، وقيل: ثم اظهر استواؤه على العرش للملائكة، وقيل: ثم قصد إلى خلق العرش فخلقه بعد خلق السماوات والارض، وقيل: ثم بين أنه استوى على العرش، وقيل: ثم صح الوصف بأنه مستو على العرش لانه لم يكن عرش قبل وجوده، والحق ان ثم لمجرد الترتيب، والاستواء هو الاستيلاء الفعلي الظاهر عن مقام الذات في الخلق بعد الايجاد، وحصال المعنى أنه تعالى استوى على العرش الذى هو جملة الخلق في بعض التفاسير بتدبير الامر ونفاذه فيه بعد الايجاد ألا له خلق الاشياء وأمرها بعد ايجادها، ولايخفى أن معنى الاستيلاء أنسب بسياق هذه الاية، ومعنى مساواة النسبة أنسب بقوله: (الرحمن على العرش استوى) ثم ان قوله: (على العرش) متعلق باستوى ان فسر بالاستيلاء، وان فسر بمساواة النسبة فمتعلق بمحذوف و استوى حال أو خبر بعد خبر، أو ضمن معنى الاستيلاء فمتعلق به أيضا.

معنى قوله تعالى وهو معكم أين ما كنتم


فتاوى نور على الدرب ( العثيمين ) ، الجزء : 5 ، الصفحة : 2 ت
كيف تفسر المعية في قوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)؟

فأجاب رحمه الله تعالى: معية الله تبارك وتعالى لخلقه حقيقية أضافها الله إلى نفسه في عدة آيات وهي أنواع معية تقتضي النصر والتأييد مع الإحاطة مثال ذلك قول الله تبارك وتعالى لموسى وهارون (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) وقول الله تبارك وتعالى عن نبيه محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وصاحبه هنا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالإجماع ومعيةٌ أخرى تقتضي التهديد والتحذير ومثاله قوله تعالى (يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) ومعيةٌ تقتضي العلم والإحاطة بالخلق كما في قول الله تعالى (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) هذه المعية الحقيقية لا تعني أن الله تعالى مع الخلق في الأرض كلا والله فإن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء كما قال الله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) وقد دل الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة على علو الله تبارك وتعالى وأنه فوق كل شيء وتنوعت الأدلة من الكتاب والسنة على علو الله تبارك وتعالى واستمع قال الله تعالى (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) قالها في أعظم آيةٍ من كتاب الله وهي آية الكرسي والعلي من العلو وقال تعالى (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) والأعلى وصف تفضيل لا يساميه شيء وقال الله تبارك وتعالى (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) وقال تعالى (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) والآيات في هذا كثيرة والسنة كذلك دلت على علو الله تعالى قولاً من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفعلاً وإقراراً فكان يقول صلى الله عليه وسلم (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء) وكان يقول (سبحان ربي الأعلى) ولما خطب الناس يوم عرفة وهو أكبر اجتماعٍ للنبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه قال (ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد) يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إلى الناس (اللهم) يشير إلى الله عز وجل في السماء (اشهد) يعني على الناس أنهم أقروا بالبلاغ أي بتبليغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إياهم وأتي إليه بجارية مملوكة فقال لها (أين الله قالت في السماء فقال لسيدها أعتقها فإنها مؤمنة) وأقرها على قولها إن الله في السماء وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسانٍ وأئمة الهدى من بعدهم فكلهم مجمعون على علو الله تعالى وأنه فوق كل شيء لم يرد عن واحدٍ منهم حرفٌ واحد أن الله ليس في السماء أو ليس فوق عباده ولهذا يجب على المؤمن أن يعتقد بقلبه اعتقاداً لا شبهة فيه بعلو الله تعالى فوق كل شيء وأنه نفسه جل وعلا فوق كل شيء وكيف يعقل عاقل فضلاً عن مؤمن أن يكون الله تعالى مع الإنسان في كل مكان أيمكن أن يتوهم عاقل بأن الإنسان إذا كان في الحمام يكون الله معه إذا كان في المرحاض يكون الله معه إذا كان واحد من الناس في الحجرة في بيته وآخر من الناس في المسجد يكون الله هنا وهناك الله واحدٌ أم متعدد إن الإنسان الذي يقول الله في كل مكان بذاته يلزمه أحد أمرين لا ثالث لهما إما أن يعتقد أن الله متعددٌ بحسب الأمكنة وإما أن يعتقد أنه أجزاءٌ بحسب الأمكنة وحاشاه من ذلك لا هذا ولا هذا إنني أدعو كل مؤمنٍ بالله أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله تبارك وتعالى في السماء لا يحصره مكان وإني أخشى على من لم يعتقد ذلك أن يلقى الله تعالى وهو يعتقد أن الله في كل مكان أن يلقى الله على هذه الحال فيكون مجانباً للصواب والصراط المستقيم عباد الله لا تلفظوا بأقوال من أخطؤوا من أهل العلم اقرؤوا القرآن بأنفسكم واعتقدوا ما يدل عليه هل يمكن أن يقرأ قارئ (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) ثم يعتقد أنه في المكان الذي هو فيه يعني الذي الإنسان فيه لا يمكن أبداً وأما قول هؤلاء الذين أخطؤوا وجانبوا الصواب وخالفوا الصراط إن المراد بذلك علو المكانة فكلا والله إن هؤلاء أنفسهم إذا دعوا الله يرفعون أيديهم إلى السماء إلى من دعوا وهل هذا إلا فطرة مفطورٌ عليها كل الخلق العجوز في خدرها تؤمن بأن الله تعالى فوق كل شيء فالفطرة إذاً دالة على علو الله تعالى نفسه فوق كل شيء العقل كذلك يدل على هذا فإنه من المعلوم أن العلو صفة كمال وأن السفول صفة نقص وأيهما أولى أن نصف رب العالمين بصفة الكمال أو بصفة النقص كل مؤمن يقول له صفة الكمال المطلق ولا يمكن أن يوصف بالنقص بأي حالٍ من الأحوال إذا علمت ذلك فقد يتراءى لك أن هذا ينافي قول الله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) فأقول لك أيها الأخ المسلم إنه لا ينافيه لأن الله سبحانه وتعالى ليس كعباده ليس كالمخلوق ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وهو أعلى وأجل مما يتصوره الإنسان ولا يمكن أن يحيط الإنسان بالله علماً كما قال عن نفسه (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) فهو وإن كان في السماء فوق كل شيء فهو مع العباد لكن ليس معناه أنه في أمكنتهم بل هو محيطٌ بهم علماً وقدرةً وسلطاناً وغير ذلك من معاني ربوبيته فإياك يا أخي المسلم أن تلقى الله على ضلال اقرأ قول الله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) ثم اقرأ (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ثم آمن بهذا وهذا واعلم أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) فيجب على الإنسان أن يؤمن بأن الله فوق كل شيء بأن الله نفسه فوق كل شيء بأنه ليس حالاً في الأرض ولا ساكناً فيها ثم يؤمن مرةً أخرى بأنه تعالى له عرشٌ عظيم قد استوى عليه أي علا عليه علواً خاصاً غير العلو المطلق علواً خاصاً يليق به جل وعلا وقد ذكر الله استواءه على العرش في سبعة مواضع من القرآن كلها بلفظ (استوى على) واللغة العربية التي نزل بها القرآن تدل على أن (استوى على) أي علا عليه كما في قول الله تبارك وتعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ) وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن استواء الله على العرش استواءٌ حقيقي وهو علوه جل وعلا على عرشه لم يرد عن أحدٍ منهم تفسيرٌ ينافي هذا المعنى أبداً وهنا أعطيك قاعدة وهي أنه إذا جاء في الكتاب والسنة لفظٌ يدل على معنى ولم يرد عن الصحابة خلافه فهذا إجماعٌ منهم على أن المراد به ظاهره وإلا لفسروه بخلاف ظاهره ونقل عنهم ذلك وهذه قاعدةٌ مفيدة في تحقيق الإجماع في مثل هذه الأمور وأما من فسر (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) بأنه استولى عليه فتفسيره خطاٌ ظاهر وغلطٌ واضح فإن الله استولى على العرش وغيره فكيف نقول إنه استوى على العرش خاصة يعني استولى عليه ثم إن الآيات الكريمة تأبى ذلك أشد الإباء اقرأ قول الله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فلو فسرت استوى بمعنى استولى لكان العرش قبل ذلك ليس ملكاً لله بل هو ملكٌ لغيره وهل هذا معقول هل يمكن أن يتفوه بهذا عاقل فضلاً عن مؤمن أن العرش كان مملوكاً لغير الله أولاً ثم كان لله ثانياً ألا فليتقِ الله هؤلاء المحرفون للكلم عن مواضعه وليقولوا عن ربهم كما قال ربهم عن نفسه جل وعلا فهم والله ليسوا أعلم بالله من نفسه وليسوا أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يرد عنه أنه فسر هذا اللفظ بما فسر به هؤلاء وليسوا أعلم بالله وصفاته من صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يرد عنهم أنهم فسروا الاستواء بالاستيلاء على العرش ألا فليتقِ الله امرؤ ولا يخرج عن سبيل المؤمنين بعد ما تبين له الهدى فإنه على خطرٍ عظيم إن العلماء الذين سبقوا وأتوا من بعد الصحابة والتابعين لهم بإحسان وفسروا الاستواء بالاستيلاء نرجو الله تبارك وتعالى أن يعفو عن مجتهدهم وأن يتجاوز عنهم وليس علينا أن نتبعهم بل ولا لنا أن نتبعهم فيما أخطؤوا به ونسأل الله لهم العفو عما أخطؤوا به بعد بذل الاجتهاد ونرجو الله أن يوفقنا للصواب وإن خالفناهم ولا يغرنك أيها الأخ المسلم ما تتوهمه من كثرة القائلين بهذا أي بأن استوى بمعنى استولى فإنهم لا يمثلون شيئاً بالنسبة للإجماع السابق فالصحابة كلهم مجمعون على أن (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي علا عليه لم يرد عن واحدٍ منهم حرفٌ واحد أنه استولى عليه فهم مجمعون على هذا وكذلك الأئمة من بعدهم أئمة المسلمين وزعماؤهم كالإمام أحمد وغيره إن بينك وبين الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أزمنة وعلماء لا يحصيهم إلا الله عز وجل فعليك بمذهب من سلف ودع عنك من خلف فالخير كل الخير فيمن سلف وليس فيمن خلف أيها الأخ المسلم المستمع إنني لم أطل عليك في هذين الأمرين علو الله عز وجل واستوائه على عرشه والأمر الثالث معيته لخلقه إلا لأن الأمر خطير ولأنه قد ضلت فيه أفهام وزلت فيه أقدام فعليك بمذهب من سلف ودع عنك من أخطأ ممن خلف أسأل الله أن يوفقنا جميعاً للصواب وأن يتوفانا على العقيدة السليمة الخالصة من كل شوب.

هل الله في السماء أم في كل مكان؟


هل الله في السماء أم في كل مكان؟
الكاتب : حامد بن عبد الله العلي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عندي سؤال: تناقشت في منتدى حول اين الله؟
البعض قال: انه في السماء فقط وان الرافضه يقولون انه في كل مكان.
وانا اقول ان الله في كل مكان، والدليل على ذلك قوله في سورة البقرة – الآية 115 – {فأينما تولوا فثم وجه الله}.
سألت لجنة الافتاء في (…) وقالوا ان ابن تيمية وابن القيم يقولون ان الله في السماء، وبقية الأئمة يقولون ان الله في كل مكان…
وجزاكم الله كل خير.

الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد:
أجمع العلماء من أهل السنة، من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكل من بقي من المسلمين على فطرته لم تلوثها بدع أهل الكلام المذموم، قبل أن يولد شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، على أن الله تعالى عال على خلقه، ولم يقل إنه في كل مكان إلا الرافضة الخبيثة، والجهمية الضالة.
وحتى الأشعرية فإنهم لايقولون إنه سبحانه في كل مكان، بل هم زعموا أنهم عندما ينفون علوه على خلقه، يريدون تنزيهه عن أن يحصره مكان، فكيف يحصرونه في الأمكنة كلها ؟! بل هم يقولون: الله ليس في العلو، ولا يشار إليه في جهة، ولا هو خارج العالم، كما أنه ليس داخله، كما أنه ليس متصلا بالعالم، ولاهومنفصل عنه، ولا هو في شيء من الجهات، ولا يشار إليه الإشارة الحسية، ولايقال أين هو.
وأذكر أنني في بداية طلب العلم، كان شيخنا محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي صاحب الأضواء، يدرسنا الرسالة الحموية، وتكلم على مسالة العلو على طريقة السلف، وبعد الدرس جادلني أحد الطلاب من الأشعرية، فذكر لي شبههم المشهورة، فقلت له: دعنا من هذا كله، النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأمام كل المسلمين في آخر وأكبر مجمع جمعه بأمته، وفيهم الخاصة والعامة، قال: اللهم فاشهد، وأشار إلى السماء، فقال: هذا من خصوصياته، فقلت له: ويحك إنه يخاطب الأمة، يخبرها عن ربه، فقال: هذا من خصوصياته، لم يقدر أن يزيد على ذلك !! وهذا كان من أكثر من عشرين عاما.
وقالت الأشعرية: إن ما ورد من النصوص ظواهر ظنية لاتعارض اليقينيات التي عندهم هي الشبه العقلية المتهافتة التي ظنوها أدلة يقينية.
وهذا كله غلط مخالف لما أجمعت عليه الأمة قبل أن تحدث هذه البدع الكلامية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ونحن عندما نقول إن الله تعالى في العلو، فكما قال في كتابه في آيات كثيرة، وكما تواتر في السنة في نصوص كثيرة لاتحصى إلا بكلفة، وقد ذكر الإمام الذهبي أن ما ورد من الأدلة في ذلك يربو على الألف من النصوص، والواجب على المسلم أن يسلم لنصوص الوحي،ولايعارضه ا بعقله، كما قال تعالى {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}.
ولايلزم من إثبات علوه على خلقه، أنه محصور في مكان، أو أنه تحويه جهة، فالله تعالى خالق المكان وهو فوق كل خلقه، والجهة أمر نسبي ليس هو شيء محسوس مجسم، والله تعالى محيط بكل شيء، وأكبر من كل شيء.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما عرج به إلى السماء، عرج به إلى ربه، وهناك سمع كلام ربه، حيث فرض الله تعالى عليه الصلاة، ولم يزل يتردد بين ربه جل في علاه، وموسى عليه السلام، كما في الصحيحين وغيرهما حتى خفف الله تعالى الصلاة من خمسين إلى خمس، ولما سئل صلى الله عليه وسلم، هل رأيت الله تعالى، قال نور أنى أراه، وقد رأى نور الحجاب، ومعلوم أن الله تعالى احتجب بحجاب النور عن خلقه، كما في صحيح مسلم ” حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه “.
وهذا كله يقتضي إثبات علو الله تعالى على خلقه يقينا قاطعا لكل شك، إلا إن تركنا هذه النصوص وضربنا بما دلت عليه من معان عرض الحائط، وقدمنا عليها ما يسمى الادلة العقلية اليقينية، وما هي إلا الشبه كما قال الشاعر:
شبه تهافت كالزجاج تخالهاحقا وكل كاسر مكسور
وهذا أي تقديم شبهات العقول على نصوص الوحي، ليس دين الإسلام، فدين الإسلام قائم على التسليم لنصوص الوحي، وعدم معارضتها بشيء.
ومعلوم أن أهل الجنة يرون ربهم عيانا، كما في القرآن ومتواتر الأحاديث، يرونه كما يرون الشمس ليس دونها سحاب، يرونه من فوقهم، يتجلى لهم فيرونه، فلايكون شيء من نعيم الجنة أحب إليهم من النظر إليه كما في الصحيح.
فليت شعري كيف يفهم هؤلاء المبتدعة الذين غلظ فهمهم، كيف يفهمون هذه الأحاديث، إذا كانوا لايثبتون علوه سبحانه على خلقه ؟!!
وأما قوله تعالى ” فأينا تولوا فثم وجه الله ” فالمعنى جهة الله تعالى التي أمر أن يستقبلها المصلي في الصلاة، والعرب تقول: أين وجهك، أي أين جهتك، فالوجه والجهة واحد، كمايقال وعد وعدة، ووزن وزنة، فهذه الأية نزلت في شأن القبلة، فليست هي من آيات الصفات أصلا، ثم إن الذين يقولون إن الله في كل مكان لايمكنهم أن يستدلوا بها، لانهم لايقولون إن الأماكن النجسة، والحشوش (المراحيض)، ونار جهنم، وقبور الكفار، مثلا، داخلة في قوله تعالى ” أينما تولوا فثم وجه الله ” تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فلا بد لهم من أن يقروا أنها ليست من آيات الصفات.
وفيما يلي بعض النقول التي تدل على أنه إجماع العلماء قبل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم فليس لهما اختصاص بعقيدة أن الله تعالى عال على خلقه، بل هذه عقيدة المسلمين.
الإمام الأوزاعي [ت 157 هـ] قال: (كنا والتابعون متوافرون نقول:ان الله عز وجل فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته) [انظر:مختصر العلو للذهبي 137 والأسماء والصفات للبيهقي ، وفتح الباري 13/417].
ثانيا: الامام قتيبة بن سعيد [150-240 هـ] قال: (هذا قول الائمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، كما قال جل جلاله:الرحمن على العرش استوى)، قال الذهبي: (فهذا قتيبة في امامته وصدقه قد نقل الإجماع على المسألة،وقد لقي مالكا والليث وحماد بن زيد، والكبار، وعمر دهرا وازدحم الحفاظ على بابه) [انظر:مختصر العلو 187، درء تعارض العقل والنقل 6/260، بيان تلبيس الجهمية 2/37].
ثالثا: الامام المحدث زكريا الساجي [ت 307 هـ] قال: (القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذين لقيناهم أن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء) انتهى، قال الذهبي: (وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها وعنه اخذ أبو الحسن الاشعري علم الحديث ومقالات أهل السنة) [مختصر العلو 223، اجتماع الجيوش الاسلامية لابن القيم 245].
رابعا: الامام ابن بطة العكبري شيخ الحنابلة [304-387 هـ] قال في كتابه “الإبانة عن شريعة الفرقة والناجية”: (باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بخلقه، أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه فوق سمواته بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع خلقه، ولا يأبى ذلك ولا ينكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية وهم قوم زاغت قلوبهم واستهوتهم الشياطين فمرقوا من الدين وقالوا: إن الله ذاته لا يخلو منه مكان) انتهى [انظر الإبانة 3/ 136]، قال الذهبي: (كان ابن بطة من كبار الأئمة ذا زهد وفقه وسنة واتباع) [مختصر العلو 252].
خامسا: الإمام أبو عمر الطلمنكي الأندلسي [339-429 هـ] قال في كتابه “الوصول إلى معرفة الأصول”: (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله {وهو معكم أينما كنتم}، ونحو ذلك من القرآن: أنه علمه، وأن الله تعالى فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء)، وقال: (قال أهل السنة في قوله {الرحمن على العرش استوى}، إن الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز) انتهى، قال الذهبي: (كان الطلمنكي من كبار الحفاظ وأئمة القراء بالأندلس) [درء التعارض 6/250، الفتاوى 5/189، بيان تلبيس الجهمية 2/38، مختصر العلو 264].
سادسا: شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني [372-449 هـ] قال: (ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سمواته على عرشه كما نطق كتابه وعلماء الأمة واعيان الأئمة من السلف، لم يختلفوا أن الله على عرشه وعرشه فوق سمواته) انتهى، قال الذهبي: (كان شيخ الإسلام الصابوني فقيها محدثا وصوفيا واعظا كان شيخ نيسابور في زمانه له تصانيف حسنة).
سابعا: الإمام أبو نصر السجزي [ت 444 هـ] قال في كتابه “الإبانة”: (فأئمتنا كسفيان الثوري ومالك وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض واحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي؛ متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وان علمه بكل مكان، وانه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء، فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء) انتهى [انظر: درء التعارض 6/250 ونقل الذهبي كلامه هذا في السير 17/ 656]، وقال الذهبي عنه: (الإمام العلم الحافظ المجود شيخ السنة أبو نصر… شيخ الحرم ومصنف الإبانة الكبرى).
ثامنا: الحافظ أبو نعيم صاحب الحلية [336-430 هـ] قال في كتاب “الاعتقاد” له: (طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومما اعتقدوه؛ أن الله لم يزل كاملا بجميع صفاته القديمة، لا يزول ولا يحول… وأن القرآن في جميع الجهات مقروءا ومتلوا ومحفوظا ومسموعا ومكتوبا وملفوظا: كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة… وأن الأحاديث التي ثبتت في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل، وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه) انتهى، قال الذهبي: (فقد نقل هذا الإمام الإجماع على هذا القول ولله الحمد، وكان حافظ العجم في زمانه بلا نزاع… ذكره ابن عساكر الحافظ في أصحاب أبى الحسن الاشعري) [درء التعارض 6/261، الفتاوى 5/ 190، بيان تلبيس الجهمية 2/ 40 مختصر العلو 261].
تاسعا: الإمام أبو زرعة الرازي [ت 264 هـ] والإمام أبو حاتم [ت 277 هـ]، قال ابن أبى حاتم: (سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان في ذلك ؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا فكان مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص… وأن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف أحاط بكل شيء علما {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير})، قال: (وسمعت أبى يقول: علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة: تسميتهم أهل السنة حشوية، يريدون إبطال الأثر، وعلامة الجهمية: تسميتهم أهل السنة مشبهة، وعلامة الرافضة: تسميتهم أهل السنة ناصبة) انتهى [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي – ت 418 هـ – ا/ 197-204].
عاشرا: الإمام ابن عبد البر [ت 463 هـ] قال في “التمهيد” بعد ذكر حديث النزول: (وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على عرشه من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم؛ إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش)، ثم ذكر الأدلة على ذلك، ومنها قوله: (ومن الحجة أيضا في انه عز وجل فوق السموات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى اكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم)، وقال أيضا: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا انهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله)، ومما احتج به أيضا حديث الجارية، كما أجاب عن قولهم “استوى ؛ استولى” بتفصيل رائع [انظر فتح البر بترتيب التمهيد 2/ 7 –48].
الحادي عشر: الإمام ابن خزيمة صاحب الصحيح [ت 311 هـ] قال: (من لم يقل بأن الله فوق سمواته وأنه على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم القي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة) [انظر درء التعارض 6/ 264]، قال عنه الذهبي في السير [14/ 365]: (الحافظ الحجة الفقيه شيخ الإسلام إمام الأئمة)، ونقل عنه قوله: (من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى، فوق سبع سمواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئا) انتهى.
وهذه نقول أخرى:
قال الإمام الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات: (ومعنى قوله في هذه الأخبار “من في السماء” أي فوق السماء على العرش كما نطق به الكتاب والسنة).
وسئل الإمام ابن المبارك: كيف نعرف ربنا ؟ قال: (في السماء السابعة) [رواه البخاري في خلق أفعال العباد ].
قال الإمام الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله: (وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة ولا على العلو والرفعة كما قالت الأشعرية، بل إنه في السماء على العرش، كما قال {الرحمن على العرش استوى}) [الغنية لطالبي طريق الحق ص56].
وعن سليمان التميمي أنه قال: (لو سئلت أين الله لقلت في السماء) [البخاري في خلق أفعال العباد].
[25-02-2004]

45 – مذهب أهل السنة والجماعة في صفة العلو


فتاوى نور على الدرب
تصفح برقم المجلد > المجلد الأول > كتاب العقيدة > باب ما جاء في الأسماء والصفات > مذهب أهل السنة والجماعة في صفة العلو
45 – مذهب أهل السنة والجماعة في صفة العلو
س: السائل إ . أ . أ . من الحوطة ، يقول : ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في العلو؟ .
ج : مذهب أهل السنة والجماعة : الإيمان بعلو الله ، وأنه سبحانه فوق العرش ، فوق جميع الخلق ، كما قال جل وعلا : فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ وقال جل وعلا : وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ، وقال سبحانه : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
(الجزء رقم : 1، الصفحة رقم: 136)
، وقال سبحانه : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ، وقال جل وعلا : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، أهل السنة والجماعة يؤمنون إيمانا قطعيا بأنه سبحانه في العلو فوق العرش ، فوق جميع الخلق ، ليس بينهم خلاف في هذا والحمد لله .
س: السائل من تشاد ، يقول : أين الله؟ هل هو على عرشه؟ أم في كل مكان؟ وما حكم من يقول بأن الله في كل مكان؟ .
ج : الله سبحانه فوق العرش في العلو فوق جميع الخلق ، عند أهل السنة والجماعة ، هكذا جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ، كل الرسل جاءوا بأن الله فوق العرش ، فوق جميع الخلق سبحانه وتعالى ، قال تعالى : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ، وقال سبحانه : أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ، وقال جل وعلا : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ، وقال جل وعلا : تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
(الجزء رقم : 1، الصفحة رقم: 137)
، وقال جل وعلا : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ، في سبعة مواضع ، صرح فيها سبحانه بأنه فوق العرش ، قد استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته ، لا يشابه خلقه في استوائهم ، ولا في غير ذلك من صفاته جل وعلا ، قال سبحانه : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، وقال تعالى : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ، وقال سبحانه : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ، استفهام إنكاري يعني لا سمي له ، ولا كفو له سبحانه وتعالى ، وجاء رجل من الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية يريد أن يعتقها ، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : يا جارية أين الله؟ ” قالت : في السماء ، قال : ” من أنا؟” ، قالت : أنت رسول الله ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة ، أخرجه مسلم في صحيحه ، لما سألها عن الله؟ قالت : في السماء ، فقال : أعتقها فإنها مؤمنة ، دل على أن ربنا في السماء في العلو ، فوق العرش ، فوق جميع الخلق ، وهذا معنى قوله سبحانه : أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
(الجزء رقم : 1، الصفحة رقم: 138)
، هكذا جاء في سورة الملك ، وهذا إجماع أهل السنة والجماعة ، أجمع الصحابة كما أجمعت الرسل عليهم الصلاة والسلام أن الله فوق العرش ، وأن الله في العلو جل وعلا ، ومن هذا قوله جل وعلا : وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ، دل على أن موسى أخبره أن الله في العلو ، وأنه فوق العرش ، ولهذا قال فرعون ما قال .
ومن قال : إن الله في كل مكان أو ليس في العلو فهو كافر ، مكذب لله ورسوله ، ومكذب لإجماع أهل السنة والجماعة ، كالجهمية وأشباههم والمعتزلة هؤلاء من أكفر الناس ، لإنكارهم أسماء الله وصفاته .

المبحث السابع عشر: الرد على تأويلهم صفة العلو


المبحث السابع عشر: الرد على تأويلهم صفة العلو

سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن قول بعض الناس إذا سئل “أين الله” قال: “الله في كل مكان” أو “موجود” فهل هذه الإجابة صحيحة على إطلاقها؟ فأجاب بقوله:
“هذه إجابة باطلة لا على إطلاقها ولا تقييدها فإذا سئل أين الله؟ فليقل: “في السماء”، كما أجابت بذلك المرأة التي سألها النبي، صلى الله عليه وسلم، ((أين الله؟” قالت: في السماء)) (1) .
وأما من قال: “موجود” فقط. فهذا حيدة عن الجواب ومراوغة منه.
وأما من قال: “إن الله في كل مكان” وأراد بذاته فهذا كفر لأنه تكذيب لما دلت عليه النصوص، بل الأدلة السمعية، والعقلية، والفطرية، من أن الله – تعالى- عليٌّ على كل شيء وأنه فوق السموات مستوٍ على عرشه”.
كما سئل فضيلته عن تفسير استواء الله – عز وجل- على عرشه بأنه علوه -تعالى- على عرشه على ما يليق بجلاله؟ فأجاب بقوله:
“تفسير استواء الله تعالى على عرشه بأنه علوه- تعالى- على عرشه على ما يليق بجلاله هو تفسير السلف الصالح. قال ابن جرير إمام المفسرين في تفسيره “من معاني الاستواء: العلو والارتفاع كقول القائل: استوى فلان على سريره يعني علوه عليه”.
وقال في تفسير قوله – تعالى-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] “يقول جل ذكره: الرحمن على عرشه ارتفع وعلا”. أ. هـ. ولم ينقل عن السلف ما يخالفه.
ووجهه: أن الاستواء في اللغة يستعمل على وجوه:
الأول: أن يكون مطلقاً غير مقيد فيكون معناه الكمال كقوله – تعالى-: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى [القصص:14].
الثاني: أن يكون مقروناً بالواو فيكون بمعنى التساوي. كقولهم: استوى الماء والعتبة.
الثالث: أن يكون مقروناً بإلى فيكون بمعنى القصد كقوله – تعالى-: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [فصلت:11].
الرابع: أن يكون مقروناً بعلى فيكون بمعنى العلو والارتفاع كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].
وذهب بعض السلف إلى أن الاستواء المقرون بإلى كالمقرون بعلى، فيكون معناه الارتفاع والعلو، كما ذهب بعضهم إلى أن الاستواء المقرون بعلى بمعنى الصعود والاستقرار .
وأما تفسيره بالجلوس فقد نقل ابن القيم في (الصواعق) (4/1303) عن خارجة بن مصعب في قوله – تعالى-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قوله: “وهل يكون الاستواء إلا الجلوس”. أ. هـ. وقد ورد ذكر الجلوس في حديث أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس – رضي الله عنهما- مرفوعاً. والله أعلم. (2)

بحث في قول : أين الله عز و جل ؟


بحث في قول :  أين الله عز و جل ؟

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد 

محمد عارف الأرناؤوط أبو دُجانة

 
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على محمد سيد الأنبياء والمرسلين ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وقد أرسل الله عز وجل الرسل على فترة من الزمن حتى يدعوا الناس إلى عبادة الله الواحد القهار وكان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل وكان النور المبين لهذه الأمة, فقد أرسله الله تعالى في زمان يأكل الضعيف فيها قويها، ويئد الطفلة المسكينة أبوها، فبعثه رحمة للعالمين مفرقٍ بين الحق والباطل وتبياناً لكل شيء، فكيف نبتعد عن هديه؟ وكيف لا نتبع سنته ولا نتبع نهج صحابته؟ وبالأخص في قضايا التوحيد والعقيدة.
والحمد لله على بقايا أهل العلم الذين يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله تعالى أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن آثارهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف المغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله تعالى وفي الله تعالى وفي كتاب الله تعالى بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضليــن.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم وما معه من الحق ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم من كبار التابعين والتابعين لهم لم يتركوا العقول تحار وتبتعد عن الصواب, فالعاقل يتمسك بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونهج صحابته والسلف الصالح ونعلم الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته).
ونحن نعلم أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها أي ما قاله رسول الله وقاله الصحابة واجتهد به كبار التابعين والتابعين لهم فلماذا نبتعد عن أقوالهم وما قالوه في قضايا التوحيد والعقيدة, فلماذا نأتي ونخترع كلمات وجمل إذا دققت فيها تجدها ما أنزل الله بها من سلطان.
ورحم الله من قال :

دين النبي محمد أخــــبار *** فنعم المطية للفتى آثـــــــار
لا ترغبن عن الحديث وأهلــه *** فالرأي ليل والحديث نهــــار
ولربما جهل الفتى أثر الهــدى *** والشمس بازغة لها أنـــــوار

ورحم الله من قال:

فهذا الحق ليس فيه خفـــاء **** فدعك عن بنيــات الطريـــق

والموضوع الذي بين يدي والذي أعد هذا البحث من أجله ومن أجل تبيانه وأرجو الله أن يوفقني لما يحب ويرضى من القول والفعل.
لطالما سمعنا كثيراً من الناس بل من طلاب العلم وطلاب المعاهد يتناقشون في هذا الأمر وهو أين الله عز و جل ؟
فمنهم من ينكر هذا السؤال برمته ويقول لك لا يجوز أن تسأل هذا السؤال، ومنهم من يقول لا أعرف أوقد حرت فيه وتهت فيه, ومنهم من يجيبك بأن الله في كل مكان، وهذا ما سمعه من مشايخه، ومنهم من يقول لك أن الله في السماء تبارك وتعالى.
وإليك الجواب الشافي في هذه القضية الذي يبعدك عن الشك والحيرة والوقوع في الغلط متمثلاً ذلك بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونهج السلف الصالح.

بداية: إن هذه القضية قد تم التنازع فيها وما السبيل لحل هذا التنازع؟

أقول وبالله التوفيق:
نحن نتّبع من كان قوله متفقاً مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد أخبرنا الله عز وجل ماذا نفعل إن تنازعنا في شيء أو اختلفنا في شيء وهذا هو الحل{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وقال تعالى:{ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} .
وقال أيضاً: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً} .
وقال جل ذكره: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} .
فهذه الآيات وغيرها من الآيات تدل على أمر واحد وهو أننا إذا تنازعنا في شيء فلنحكّم فيه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقول صحابة رسول الله وقول السلف الصالح الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم من أفضل الناس. فماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وماذا قال سلف هذه الأمة في القضية، هي لم تكن قضية يتنازعون فيها لأنهم كانوا متفقين على قول، ولكن نشأ النزاع عندما أتت كتب المنطق وعلم الكلام وترجمت إلى العربية فأخذ الناس بالتأويـل، فبدأ الواحد منهم يفسر ويتأول ويصول ويجول في آيات الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لا يقف على كلام السلف في ذلك فيقوم ويجتهد!!
أين الاجتهاد يا أخي إذا كان هناك نص، والقاعدة المعروفة في الأصول (لا اجتهاد في مورد النص)!! .
فالصحابة والتابعين لهم، كانوا أقرب زماناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبت إيماناً وأصدق كلاماً وأقوى عقيدة وأحسن فهماً وتأويلاً فهل نأتي ونتكلم في أمور قد تكلموا بها وشرحوها لعامة المسلمين وأئمتهم فهل هم أرسخ في العلم أم نحن ؟!

كل هذه المقدمة هي للوصول للجواب الشافي إن شاء الله وهو (( أن الله في السماء)) وهو جواب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح ولبّ الكلام هو أن المقصود بكلمة (السماء) يراد بها العلو والسمو, أي أن الله في الأعلى ولا يراد التحجيم والتحييز، وحاشا لله أن يكون كذلك فالله عز وجل لا سماء تظلّه أو تقلّه وهذا مخالف للعقل والفطرة، ويجوز أن يكون لفظ (في) بمعنى لفظ (على) ودليل ذلك قوله تعالى: {فسيحوا في الأرض} وقوله: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} والمعنى على الأرض وعلى الجذوع لا فيها، ومن سمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح وجد فيه إثبات الفوقية مالا ينحصر, وسيأتي ذكرها بعد قليل من آيات وأحاديث وكلام للسلف بهذا الخصوص, ومما لا ريب فيه ولاشك أن الله تعالى لما خلق عباده لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى الله عن ذلك فهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم بائن عن خلقه لكان متصفاً بضد ذلك، ونحن نعلم أن القابل للشئ لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السُفول وهو مذموم على الإطلاق لأنه مستقر إبليس وأتباعه من الجنود.
ونحن نعلم أن صفة العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فنفي حقيقة العلو يكون عين الباطل.

نصوص إثبات العلو من الكتاب والسنة:
النصوص الواردة والمتنوعة والمحكمة على علو الله على خلقه وكونه فوق عباده بالتفصيل:
أولاً: التصريح بالفوقية مقروناً بأداة (من) المعينة للفوقية بالذات, قال الله تعالى:{ يخافون ربهم من فوقهم } النحل 50.
ثانياً: ذكرها مجردةً عن الأداة, قال تعالى:{ وهو القاهر فوق عباده } الأنعام 18.
 ثالثاً: التصريح بالعروج، قال تعالى:{ تعرج الملائكة والروح إليه } المعارج 4.
رابعاً: التصريح بالصعود إليه، قال تعالى:{ إليه يصعد الكلم الطيب } فاطر 10.
خامساً: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه, قال تعالى: { بل رفعه الله إليه} النساء158, { إني متوفيك ورافعك إليّ } آل عمران 55.
سادساً: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتاً وقدراً وشرفاً، قال تعالى:{وهو العلي العظيم } { وهو العلي الكبير } { إنه علي حكيم }.
سابعاً: التصريح بتنزيل الكتاب منه، قال تعالى: { هو الذي أنزل عليك الكتاب…} آل عمران 7، {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} غافر2.
ثامناً: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده وأن بعضها أقرب إليه من بعض، قال تعالى:{ إن الذين عند ربك }الأعراف206،{ وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} الأنبياء19. وفي هذه الآية نلاحظ الفرق بين (له من) عموماً وبين (من عنده) من ملائكته وعبيده خصوصاً, وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن النعمان بن البشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:)إن الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفيّ عام وهو عند العرش وإنه أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها الشيطان) صحيح.
تاسعاً: التصريح بأنه تعالى في السماء والمراد بها العلو، قال تعالى:{ أأمنتم من في السماء } الملك16، وكما ذكرنا سابقاً يجوز لفظ (في) بمعنى (على)، وقد أولت طائفة أن من في السماء هم الملائكة وليس الله وهذا قول باطل لأن الأحاديث تثبت أن الله في السماء فالحديث الذي رواه أحمد وأبو داوود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:)الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وهو حديث صحيح، والحديث يتكلم عن الرحمن تبارك وتعالى، فهو لا يتكلم عن الملائكة، فالله هو الذي يرحم ويعذب ويعاقب.
ونذكر الحديث الذي يتحدث عن الروح الخبيثة والروح الطيبة حينما تُتوفى وهذا الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:)…… فيُنطلق به إلى ربه) أي أن الروح الطيبة تصعد إليه تعالى ثم يأمر عز وجل بكتابة عبده في أعلى عليين.
عاشراً: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات {ثم استوى على العرش} ونعلم أن ثم تفيد الترتيب.
حادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، فعن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين) ،حديث صحيح.
ثاني عشر: التصريح بالنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، ونحن نعلم أن النزول المعقول عند جميع الأمم يكون من علو إلى سفول، والله أعلم بكيفية النزول.
ونذكر الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يتنزّل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له).
ثالث عشر: الإشارة حساً إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم بربه محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع حينما قال: (أنتم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء قائلاً :اللهم فاشهد). رواه مسلم وأبو داوود من حديث جابر بن عبد الله، وحديث أنس رضي الله عنه والذي ورد في الصحيحين أنه قال:كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
رابع عشر: التصريح بلفظ “الأين” كقول أعلم الخلق به وأنصحهم لأمته وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلاً، بقوله للجارية السوداء ((أين الله؟)) وهذا ما سنشير إليه فيما بعد، وهناك فئة ينكرون هذا السؤال، باحتجاجهم بأن هذا السؤال مثير للفتنة كما أوردنا في بداية البحث ويعتمدون على قوله تعالى:{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} قال الطبري شيخ المفسرين رحمه الله في خبر روي عن ابن عباس حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد، قال ابن عباس: (( التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا اللّه)). فالمتشابه بقول بعض العلماء إنه الحروف المقطعة من القرآن وهذه التي لا يعلمها إلا الله ومثلها ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك؛ فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها، لاستئثار اللّه بعلم ذلك على خلقه.
ومنهم من قال: إن القرآن جملة وتفصيلاً محكم ولفظ المتشابه أي التشابه بين الآيات وليس لشبهة بينها.
ومنهم من قال: إن التشابه بالآيات هو ما يعلمه الراسخون في العلم مع إيمانهم بها بعيدين عن العوام وعن الذين يبتغون الفتنة كما فعله الجهمية والمعطلة والمعتزلة الذين في قلوبهم زيغ فأرادوا الفتنة ولم يريدوا علماً نافعاً.
الخامس عشر: شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربّه في السماء بالإيمان وهذا ما حدث مع الجارية السوداء حينما أجابته فقال اعتقها فإنها مؤمنة. يقول البعض في هذا الحديث إن رسول الله قد خاطبها على قدر عقلها ولكن هل يعقل لرسول الله أن يطلق حكماً أو شهادةً من عنده، فما كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك الجارية: أين الله؟ إلا لامتحان إيمانها، والدليـل أنه أمر بإعتاقها لأنها مؤمنة بقولها أن الله في السماء، فلو أجابته أنه في الأسفل أو في كل مكان هل سيكون جواب سيد الخلق كذلك بأنها مؤمنة؟ ورسول الله هو الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى.
سادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطّلع إلى إله موسى فيكذبه بما أخبره من أن الله فوق السموات فقال: {يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطّلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً}.
فمن نفى العلو فهو فرعوني، ومن أثبته فهو موسويٌّ مُحَمَّدِي.
سابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم كيف تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه في المعراج مراراً عدة والحديث معروف بالصحيحين.
ثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة لله تعالى من الكتاب والسنة وإخباره النبي أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر فلا يرونه إلا من فوقهم ونعلم أنه لا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية ولهذا نفى الجهمية الأمرين الرؤية والفوقية وأثبت أهل السنة والجماعة الأمرين وصار عندهم من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فهذه الأدلة جميعها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكلها إن شاء الله أحاديث صحيحة، وطبعاً هذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله وهيهات له بجوابٍ صحيح عن بعض ذلك (ونعرج للذكرى على خطورة الخوض في الكيفية فيما يتعلق بالله عزوجل وكيفية نزوله إلى السماء الدنيا، كما يتجرأ البعض على الخوض في هذا، بل نحن نؤمن ونسلم فقط دون الخوض في الكيفية) وسيأتي شرح هذا القول إن شاء الله بالتفصيل.

نصوص إثبات العلو من كلام الأئمة:

كلام السلف في إثبات صفة العلو نجدها كثيرة فمنها:
ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق يسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة لمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال الإمام أبو حنيفة: قد كفر، لأن الله تعالى يقول: ((الرحمن على العرش استوى)) وعرشه فوق سبع سموات.
قلت: فإن قال إنه على العرش ولكن يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أنه في السماء فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين.
وروى ابن عبد البر في كتاب التمهيد: قول الإمام مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان.
ونذكر قول أبي عمر الطلمنكي: في كتابه الأصول: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه بذاته على الحقيقة لا على المجاز، ثم ذكر قول مالك السابق.
وأما قول الإمام الشافعي: فقد قال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا أبو شعيب وأبو ثور عن محمد بن إدريس الشافعي قال: القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك، وغيرهما: الإقرار بشاهدة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء.
وأما قول الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله: قال الخلال في كتاب السنة أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال سألت أحمد ابن حنبل عمن قال: إن الله تعالى ليس على العرش، فقال: كلامهم كله يدور حول الكفر.
وقال أبو طالب سألت أحمد ابن حنبل عن رجل قال إن الله معنا وتلا قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) فقال أحمد يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها، هلّا قرأت {ألم ترى أن الله يعلم ما في السموات} فهو بالعلم معهم وغير مماس لشيء من خلقه.
ونذكر أيضاً قصة أبا يوسف في بشر المريسي حينما سمعه يقول وهو ساجد: سبحان ربي الأسفل فأراد أن يقيم عليه الحد لقوله ذلك، فقد أنكر قوله تعالى:{سبح اسم ربك الأعلى} رواه ابن أبي حاتم بسند صحيح.
ونذكر أيضاً قول ابن المبارك حينما سُأل أين الله؟ فأجاب: اللهُ فوق العرش بذاته وهو بائن عن خلقه وهو معهم بعلمه. ( بائن من خلقه: أي مستغنٍ عنهم وهو غني عن العالمين).
ونذكر قول ابن خزيمة: فقد قال أبو عبد الله الحاكم في كتاب تاريخ نيسابور، وفي كتاب علوم الحديث: سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت إمام الأئمة أبا بكر بن خزيمة يقول: من لم يقر بأن الله على عرشه استوى فوق سبع سماوات وأنه بائن من خلقه فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة، ومن ينكر رؤية الله في الآخرة فهو شر من اليهود والنصارى والمجوس وليسوا بمؤمنين عند أهل السنة والجماعة.
وأما قول أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه صريح السنة: وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز إلى غير ذلك فقد خاب وخسر.
ونذكر قول ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية في باب الإيمان أنّ الله فوق عرشه وأن الله هو الذي أخبر بذلك ورسوله أيضاً وأجمع عليه السلف من أنه فوق سماواته على عرشه وهو مع خلقه أينما كانوا يعلم ما يعملون, كما جمع بين ذلك في قوله: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}. فليس معنى قوله:{وهو معكم أينما كنتم}أنه مختلط بخلقه فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه السلف وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، ولله المثل الأعلى أنّك تلاحظ القمر وهو آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته تجده موضوعاً في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، والله سبحانه وتعالى فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني الربوبية. وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه صواب، حقيقته لا تحتاج إلى تحريف أو تأويل.
ومعنى مهيمن عليهم قال ابن عباس: أي مؤتمنٌّ عليهم، وقال الكسائي: شاهدٌ عليهم، وقال غيره: رقيباً عليهم، فهيمن يهيمن هيمنةً أي رقيباً على كل شيء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله:{ وهو معكم أينما كنتم} قال: عالم بكم أينما كنتم، وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن سفيان الثوري أنه سأل عن قوله: { وهو معكم أينما كنتم } قال: علمه. وأما قوله:{ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أي هو إله من في السماء ومن في الأرض يعبده أهلهما وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه. وهذه الآية كقوله: { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون }. أي هو الذي يدعوه من في السموات ومن في الأرض لأنه يعلم السر والجهر.
إذاً لماذا نحاول أن نجتهد وأن نؤوّل وأن نفسر على أريحيتنا ونترك تفسير من قد سلف فهم كانوا من أخير الناس وأفضلهم ولا تنسى أن الزمان الذي نعيشه زمان فتن وأهواء وملذات وشهوات زمان كثير فيه خطباؤه قليل فيه علماؤه؟!
والذي يجري الآن أن معظم طلاب العلم والذين يأخذون العلم من المشايخ ويعتمدون تأويلاتهم دون الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وماذا قال السلف، فبهذا يعتبرون كلام المشايخ مخطوطة يرجع إليها. ونذكر قول الإمام مالك رحمه الله حينما قال: ((كلٌّ يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر الرسول))، ونذكر قول أبي حنيفة: ((نقول الكلام اليوم ونرجع عنه غداً ونقوله غداً ونرجع عنه بعد غد)).
بقي أن نذكر قول ابن مسعود رضي الله عنه: ((من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرّها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)). وقال ابن مسعود أيضاً: ((اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)).
فلم هذا التعصب الذي نلحظه اليوم للعلماء أم أننا تتبع القاعدة لا تعترض فتنطرد، وهذا هو التقليد الأعمى الذي حدث عنه عدي بن حاتم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك قال: فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم ! فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم .
تمسك بحبل الله واتبع الأثر *** ودع عنك رأياً لا يلائمه خبر
لذلك أقول بعد كل هذا إنه إذا سألك أحد أين الله فأجبه، وأنت مطمئن ((أنه فوق العرش بذاته بائن من خلقه وهو معهم بعلمه)).
أو قل له في السماء واشرحها له حتى لا يقول لك إنك حجرت وحجّمت وحيّزت.
وإن لم تستطع النقاش، فعد إلى إيمان العجائز وإيمان الأطفال أي عد إلى الفطرة واسأل نفسك فستجيبك في الأعلى، فإن خانتك فاسأل طفلاً صغيراً، فسيقول لك فوق في العالي أو ينظر إلى السماء.

صفات الله عز وجل:
وبعد معرفة أين الله قلت: لابد من التكلم بعض الشيء عن موقف أهل السنة والجماعة من أسماء الله وصفاته تبارك وتعالى والرد على من ادعى من أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها:
نقول بداية: أسماء الله تعالى هو كل اسم سمى الله به نفسه في كتابه أو سماه به أعلم الخلق به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنهج أهل السنة والجماعة من هذه الأسماء أنهم يؤمنون بها على أنها أسماء لله تعالى تسمى بها عز وجل وأنها أسماء حسنى ليس فيها نقص كما قال تعالى:{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} فهم يثبتون الأسماء على أنها أسماء لله تعالى ويثبتون أيضاً ما تضمنته هذه الأسماء من الصفات فمثلاً من أسماء الله {العليم} فيثبتون العليم اسماً لله سبحانه وتعالى ويثبتون أن العلم صفة له دل عليها اسم العليم فالعليم مشتق من العلم وكل اسم مشتق من معنى فلا بد له أن يتضمن ذلك المعنى الذي اشتق منه وهذا أمر معلوم في العربية واللغات جميعاً.

واعلم أن الأسماء تكون على قسمين متعد ولازم:
فأما المتعدي: لا يتم الإيمان به إلا بأمور ثلاثة هي: الإيمان بالاسم ثم الإيمان بالصفة ثم الإيمان بالأثر، والإيمان بالأثر أي ما دل عليه الاسم من الأثر إذا كان الاسم مشتقاً من مصدر متعدٍ، فمثلاً الرحيم من أسماء الله يؤمنون به ويؤمنون بما تضمنه من صفة الرحمة ويؤمنون بآثار هذه الصفة (الرحمة) والأثر هنا أنه يرحم بهذه الرحمة من يستحقها، قال تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون } .
وأما اللازم: فإنه لا يتم به إلا بإثبات أمرين أحدهما الاسم، والثاني الصفة.

وأما موقف أهل السنة والجماعة في الصفات فهو:
إثبات كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لكن إثباتاً بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل سواء كانت هذه الصفة من الصفات الذاتية أم من الصفات الفعلية.
 الصفات الذاتية: هي التي تكون ملازمة لذات الخالق أي أنه متصف بها أزلاً وأبداً مثالها (الحياة) صفة ذاتية لأن الله لم يزل ولا يزال حياً كما قال سبحانه:{هو الأول والآخر} وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (……. . أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء) رواه مسلم. وقال تعالى:{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} .
فكل صفة لم يزل الله ولا يزال متصفاً بها فإنها من الصفات الذاتية مثل: السمع والبصر والقدرة ……….
وأما الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته فيفعلها الله تبعاً لحكمته سبحانه ومثلها: استواء الله على العرش فهو من الصفات الفعلية لأنه متعلق بمشيئته، قال تعالى:{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} فجعل الفعل معطوفاً على ما قبله بـ (ثم) الدالة على الترتيب.
ولا يغرنّك من فسر الاستواء بالاستيلاء، فهذا مناف للغة العربية فالاستواء معلوم كما بينه الله عز وجل في كتابه، والقرآن نزل بلسان عربي مبين قال تعالى:{والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون} .
واعلم أنه خير ما فُسر القرآن بالقرآن، أما تفسيره بالاستيلاء فذلك لا تقتضيه اللغة ولا يقتضيه العقل.
فانظر إلى ما قاله أهل اللغة في ذلك، فقد ذكر الأخفش (استوى أي علا ونقول استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته) وقال داوود بن علي الأصبهاني: كنت عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله {الرحمن على العرش استوى} فقال ابن الأعرابي: هو على عرشه كما أخبر فقال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى، فقال ابن الأعرابي ما يدريك؟ فالعرب لا تقول استولى على شيء حتى يكون له ضد، فأيهما غلب فقد استولى أما سمعت قول النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه *** سبق الجواد إذا استولى على الأمد
فمعنى الاستيلاء أن يكون هناك خصمان يتبارزان فينتصر أحدهما على الآخر ويستولي على الذي يريد وهذا كلام أهل اللغة، فالله عز وجل هو الذي خلق العرش فلماذا يستولي عليه والاستيلاء كما ذكرنا وهذا طريق أهل التحريف وأهل الكلام، ودليلهم قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق
فقد قال الحافظ ابن كثير: (وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاؤه عليه تعالى الله عن قول الجهمية علواً كبيراً، حيث يقال: استولى على الشيء إذا كان ذلك الشيء عاصياً عليه كاستيلاء بشر على العراق، وعرش الرب لم يكن ممتنعاً عليه نفساً واحدة حتى يقال استولى عليه، وهذا البيت ليس فيه حجة والله أعلم) .
بقي قسم آخر من صفات الله سبحانه وهي الصفات السلبية والتي نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله، وكلها صفات نقص في حقه كالموت والنوم والجهل والنسيان والعجز والتعب، فيجب نفيها عن الله تعالى وإثبات ضدها على الوجه الأكمل. قال تعالى:{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً} فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته.
وأما الدعوى التي ادعاها أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها طبعاً هذه دعوى تلبيس وتشكيك، فالمعترك القائم بين أهل السنة وأهل البدعة معترك تبين به الفرق الشاسع بين أهل السنة وأهل البدعة فأهل السنة يثبتون النصوص على حقيقتها وظاهرها اللائق بالله من غير تحريف ولا تعطيل.
فالتحريف معناه باطل بكل حال، ذم الله تعالى من سلكه{ يحرفون الكلم عن مواضعه} .

وأما التأويل ففيه ما هو صحيح مقبول وفيه ما هو فاسد مذموم ومردود وهو بمعنى التحريف.
التأويل ويطلق على معان ثلاثة:
أولها: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام وعامة ما ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى، كقوله تعالى:{هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه قد جاءت رسل ربنا بالحق} .
ثانيها: التفسير وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به. قال تعالى: {نبئنا بتأويله} ومنه قول ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين.
ثالثها: صرف اللفظ عن ظاهره بدليل أي ما يدل عليه الكلام باعتبار السياق أو باعتبار حال المتكلم به فإن كان ذلك بدليل فهو مقبول، وإلا فهو مذموم وهذا الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وهو في الحقيقة تحريف وليس تأويل.

وأما الرد على هذه الدعوى فيكون بجوابين:
الجواب الأول: ما ذكرناه بمعنى التأويل، وما يحمل من معانٍ. ونحن إذا تتبعنا البلاغة نرى أن الاستفهام يأتي لعدة معان، ويخرج عن معناه الحقيقي. ونعلم أن بعض حروف الجر تأتي لعدة معانٍ فما الذي يعين هذه المعاني؟ أليس السياق؟! وحتى أنك إذا نظرت إلى اللغة الإنكليزية فستجد كيف حروف الجر تتغير معانيها مثل: يبحث عن Look for و ينظر إلى Look at .
ولكن نحن نربطها بدليل ومن خلال السياق.
 وأما الجواب الثاني: لو سلمنا أن في اللفظ إخراجاً له عن ظاهره فإن أهل السنة والجماعة لا يمكن أبداً أن يُخرجوا لفظاً عن ظاهره إلا بدليل من الكتاب والسنة متصل أو منفصل، وأهل السنة والجماعة يتحدون أي واحد يأتي بدليل من الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته أخرجه أهل السنة عن ظاهره إلا أن يكون لهم دليل بذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وإليك بعض الأمثلة عن هذا كله:
المثال الأول: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قول الله عز وجل{ثم استوى إلى السماء} فقلتم الاستواء هنا القصد والإرادة، وقلتم في آية غيرها إن معنى الاستواء{ثم استوى على العرش} معناها العلو على وجه يليق بجلاله ولا يشبه استواء المخلوق على المخلوق، وما هذا إلا تأويل منكم لأحد النصين لا يمكن أن تخرجوا عنه، ومعلوم أن (استوى على كذا) ظاهرة جداً في العلو عليه، يبقى (استوى إلى كذا) معناها القصد، إذاً: أخرجتم كلمة (استوى) عن ظاهرها.
وجوابنا على هذا نقول: (استوى) كلمة يتحدد معناها بحسب متعلقها فمثلاً (استوى على العرش) معناها العلو على وجه يليق بجلاله ولا يشبه استواء المخلوق على المخلوق، (استوى إلى السماء) اختلف حرف الجر فكان (إلى) وتستخدم (إلى) للغاية وليست للعلو ومعلوم أنها إذا كانت للغاية فإن الفعل مضمنٌ معنى يدل على غاية، وهو القصد والإرادة وإلى هذا النحو ذهب بعض أهل السنة فقالوا (استوى إلى السماء) أي: قصد إلى السماء، والقصد إذا كان تاماً يعبر عنه بالاستواء لأن الأصل في اللغة العربية أن مادة الاستواء تدل على الكمال كما في قوله تعالى: {فلما بلغ أشده واستوى} .
جواب آخر نقول: (استوى إلى السماء) بمعنى: ارتفع. قال البغوي: وهو مروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين وهو الذي رجحه الإمام الطبري في (جامع البيان)، قال بعد ذكره الخلاف: (( وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه ((ثم استوى إلى السماء)) علا عليهن وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سماوات)).
ولكن يجب أن لا نظن أن الله سبحانه وتعالى قد انتفى عنه العلو حين خلق الأرض بل إنه سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال عالياً لأن العلو صفة ذاتية ـ ولكن الاستواء وإن كان بمعنى الارتفاع ـ إلا أننا لا نعلم كيفيته وهذا جواب آخر عن الأمة.
والخلاصة: أننا إذا فسرنا (استوى إلى السماء) بمعنى قصد إليها على وجه الكمال فإننا لم نخرج عن ظاهر اللفظ وذلك لاختلاف حرف الجر الذي تعلق بـ (استوى) في قوله: (استوى على العرش) وفي قوله: (استوى إلى السماء) وإذا قلنا بالقول الثاني المروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين بأنه ارتفع فلا يجوز لنا أن نتوهم أن الله تعالى لم يكن عالياً من قبل.

المثال الثاني: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: (( ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون)) ، إلى أن المراد: أقرب بملائكتنا وهذا تأويل! فلماذا تُخرجون النص عن ظاهره؟
نقول: اعلم أننا لو أخذنا بظاهر النص واللفظ لكان الضمير (نحن) يعود إلى الله وأقرب خبر المبتدأ وفيه ضمير مستتر يعود على الله فيكون قرب الله عز وجل، وهذا منكر ولا يقوله أهل السنة والجماعة لأن هذا الأمر لا يمكن أن يكون ولكن هذا قول أهل الحلول الذين ينكرون علو الله عز وجل ويقولون إنه بذاته في كل مكان.
وأهل السنة إن أولوا فذلك ما يقتضيه السياق كما ذكرنا آنفاً، فالذي يحضر الميت هم الملائكة ((حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون)) ، وقوله تعالى: ((ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم)) ، فالذي يحضر إلى المحتضر عند الموت هم الملائكة وأيضاً في نفس الآية ما يدل على أن ليس المراد قرب الله سبحانه لأنه قال (ونحن أقرب) ولو دل على قربه لقال الله (وأنا أقرب).

بقي أن يقال: لماذا أضاف الله القرب إليه؟ وهل جاء نحو هذا التعبير مراداً به غيره؟
الجواب: أضاف الله تعالى قرب ملائكته إليه لأن قربهم بأمره وهم جنوده ورسله، وقد جاء نحو هذا التعبير مراداً به الملائكة كقوله تعالى ((فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)) ، فإن المراد به قراءة جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الله تعالى أضاف القراءة إليه، لكن لما كان جبريل يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى فأصبحت إضافة القراءة إليه تعالى. وكذلك جاء في قوله تعالى: ((فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط)) فإبراهيم إنما كان يجادل الملائكة الذين هم رسل الله تعالى.

المثال الثالث: قال أهل التأويل أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: ((وهو معكم أينما كنتم)) فقلتم: وهو معكم بعلمه والضمير هنا عائد على الله فكيف تفسرون ذلك؟
قال أهل السنة والجماعة: نحن لم نؤول الآية بل إنما فسرناها بلازمها وهو العلم وذلك لأن قوله (وهو معكم) لا يمكن لأي إنسان يعرف قدر الله عز وجل ويعرف عظمته أن يتبادر إلى ذهنه أنه هو ذاته مع الخلق في أمكنتهم فإن هذا أمر مستحيل ومن فهم هذا الفهم فهو ضال في فهمه ومن اعتقده فإنه ضال إن قلد غيره بذلك ومن نسب إلى أحد من السلف أن ظاهر الآية (أن الله معهم بذاته في أمكنتهم) فإنه بلا شك كذاب أشر، وقد بسطنا قول الأئمة في ذلك.
إذاً أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نؤمن بأن الله تعالى فوق عرشه وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته وأنه مع خلقه لكن مع إيماننا بعلوه. ولا يمكن أن يكون مقتضى معيته إلا الإحاطة بالخلق علماً وقدرةً وسلطاناً وسمعاً وبصراً وتدبيراً وغير ذلك من معاني الربوبية، أما أن يكون حالاًّ في أمكنتهم أو مختلطاً بهم كما يقول أهل الحلول والاتحاد فإن هذا أمر باطل لا يمكن أن يكون هو ظاهر الكتاب والسنة.

ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في القواعد المثلى:
(( وتفسير معية الله تعالى لخلقه بما يقتضي الحلول والاختلاط باطل من وجوه:
الأول: إنه مخالف لإجماع السلف فما فسرها أحد منهم بذلك بل كانوا مجمعين على إنكاره.
 الثاني: أنه مناف لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة وإجماع السلف وما كان منافياً لما ثبت بدليل كان باطلاً بما ثبت به ذلك المنفي. وعلى هذا فيكون تفسير معية الله لخلقه بالحلول والاتحاد والاختلاط باطلاً بالكتاب والسنة والعقل والفطرة وإجماع السلف.
 الثالث: أنه مستلزم للوازم باطلة لا تليق بالله سبحانه وتعالى ولا يمكن لمن عرف الله تعالى وعرف حق قدره وعرف مدلول المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم أن يقول: إن الحقيقة معية الله لخلقه تقتضي أن يكون مختلطاً بهم أو حالاًّ في أمكنتهم ولا يقول ذلك إلا جاهل باللغة العربية جاهلاًَ بعظمة الرب جل وعلا.
وعلى هذا: فنحن لم نؤول الآية ولم نصرفها عن ظاهرها لأن الذي قال عن نفسه ((وهو معكم)) هو الذي قال عن نفسه ((وهو العلي العظيم)) وهو الذي قال ((وهو القاهر فوق عباده)) وهو الذي قال ((يخافون ربهم من فوقهم)) وقد ذكرت ذلك فلا داعي لسرد الآيات. إذاً: فهو فوق عباده ولا يمكن أن يكون في أمكنتهم ومع ذلك فهو معهم محيط بهم علماً وقدرةً وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك.
واعلم أنه لا تعارض بين معنى المعية حقيقة وبين علو الله سبحانه لأن الله ((ليس كمثله شيء)) في جميع صفاته فهو عليٌ في دنوه، قريب في علوه، وهذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال أيضاً: (إن الناس يقولون: مازلنا نسير والقمر معنا مع أن القمر في السماء. وهم يقولون: معنا! فإذا كان هذا ممكناً في حق المخلوق كان في حق الخالق من باب أولى). والمهم أننا نحن معشر أهل السنة ما قلنا ولا نقول: إن ظاهر الآية هو ما فهمتوه وأننا صرفناها عن ظاهرها بل نقول: إن الآية معناها أنه سبحانه مع خلقه حقيقة، معية تليق به، محيط بهم علماً وقدرة وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك لأنه لا يمكن الجمع بين نصوص المعية وبين نصوص العلو إلا على هذا الوجه الذي قلناه، والله سبحانه وتعالى يفسر كلامه بعضه بعضاً.
وقال ابن عثيمين رحمه الله وصدق هو ومن قال ذلك (فإن من كان عالماً بك مطلعاً عليك مهيمناً عليك يسمع ما تقول ويرى ما تفعل ويدبر جميع أمورك فهو معك حقيقة وإن كان فوق عرشه حقيقة لأن المعية لا تستلزم الاجتماع في مكان واحد).

عدم الخوض في الكيفية:
بقي أن نتكلم عن موضوع بغاية الأهمية كنت قد أشرت إليه سابقاً والآن سأفصل وأتوسع به وهو موضوع الكيفية.
فعندما تقول لأناس حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فاستجب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
فيقول هؤلاء كيف ينزل الله إذا كان عندنا الليل فيكون في النصف الآخر من الكرة الأرضية النهار فكيف يتم الأمر؟ وما قصدوا من قولهم إلا الفتنة وهذا ما يدندن حوله أهل الكلام.

اعلم يا عبد الله: أن النزول من الصفات الفعلية التي ذكرتها لأنه متعلق بمشيئة الله تعالى، واعلم أن كل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته وقد تكون الحكمة معلومة لنا وقد نعجز عن إدراكها لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء شيئاً إلا وهو موافق للحكمة كما يشير إليه قوله تعالى: ((وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً)) فأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك ولكنهم في هذا الإيمان يتحاشون التمثيل أو التكييف، أي لا يقع في نفوسهم أن نزوله كنزول المخلوقين أو استواءه على العرش كاستوائهم لأنهم يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ويعلمون بمقتضى العقل ما بين الخالق والمخلوق من تباين عظيم في الذات والصفات والأفعال ولا يمكن أن يقع في نفوسهم كيف ينزل أو كيف استوى على العرش أو كيف يأتي للفصل بين عباده يوم القيامة أي أنهم لا يكيفون صفاته مع إيمانهم بأن لها كيفية لكنها غير معلومة لنا وحين إذٍ لا يمكن أبداً أن يتصوروا الكيفية ولا يمكن أن تنطق بها ألسنتهم أو يعتقدوها في قلوبهم فالله تعالى يقول: ((ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)) وقوله: (( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)) . ولأن الله أجل وأعظم من أن تحيط به الأفكار قال تعالى: ((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً)) .
وأنت متى تخيلت أي كيفية فعلى أي صورة تتخيلها؟! إن حاولت ذلك فإنك في الحقيقة ضال ولا يمكن أن تصل إلى حقيقة لأن هذا أمر لا يمكن الإحاطة به وليس من شأن العبد أن يتكلم فيه أو أن يسأل عنه، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله حين سأله رجل: يا أبا عبد الله (( الرحمن على العرش استوى)) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) وصار ينزف عرقاً لأنه سؤال عظيم ثم قال تلك الكلمة المشهورة: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) أي السؤال عن الكيف بدعة، فإذاً نحن نعلم معاني صفات الله ولكننا لا نعلم الكيفية ولا يحل لنا أن نسأل عن الكيفية كما أنه لا يحل لنا أن نمثل أو نشبه لأن الله تعالى يقول: ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)) .
المهم: يجب علينا أن نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم سواء كانت تلك الصفة ذاتية أم فعلية ولكن بدون تكييف ولا تمثيل.
فالتكييف ممتنع لأنه قول على الله بغير علم والله قال: ((ولا تقف ما ليس لك به علم)).
والتمثيل ممتنع لأنه تكذيب لله في قوله: ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)) وقول بما لا يليق بالله تعالى من تشبيهه بالمخلوقات.
وأما من الناحية العقلية فالتكييف باطل بدلالة العقل، لماذا باطل؟ لأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته أو العلم بنظيره المساوي له أو الخبر الصادق عن كيفية ذاته وصفاته وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله عز وجل فوجب بطلان تكييفها وأي كيفية تقدر لله عز وجل فهي كذب وافتراء على الله لأنه لا علم لأحد بذلك ثم إن الله تعالى أعظم وأجل من أي كيفية تقدرها في ذهنك فأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يشبهوا أو يكيفوا.

عقيدة أبي الحسن الأشعري رحمه الله:
ورأيت لزاماً على أن أختم حديثي عن صفات الله بقول الإمام أبي الحسن على بن إسماعيل الأشعري إمام طائفة الأشعرية، فهذا الإمام لا بد أن نتكلم عن معتقده على وجهه بالأمانة، ونجتنب أن نزيد فيه أو ننقص منه، وإذا أردت أن تعلم حقيقة حاله وصحة عقيدته فارجع إلى كتابه ( الإبانة في أصول الديانة) فقد قال رحمه الله في الصفات: (( وقد خالف المعتزلة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة ودفعوا أي يكون لله وجه مع قوله: ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله: (لما خلقت بيديّ) وأنكروا أن يكون لله عينان مع قوله: (تجري بأعيننا) ( ولتصنع على عيني) ونفوا ما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا…). وقولنا لهؤلاء والذي به نقول وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه الإمام أحمد ابن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته لأنه الإمام الفاضل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين، وجملة قولنا: أن الله تعالى استوى على عرشه كما قال تعالى: ( الرحمن على العرش استوى) وأن له وجهاً بلا كيف، كما قال تعالى: ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وأن له يدان بلا كيف، كما قال تعالى: ( بل يداه مبسوطتان) وقوله تعالى: ( لما خلقت بيدي) وأن له عينان بلا كيف، كما قال تعالى: ( تجري بأعيننا) وأن لله علماً كما قال تعالى: ( أنزله بعلمه) ونثبت لله القوة، كما قال تعالى: ( أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي كما نفت المعتزلة والجهمية والخوارج، وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، ويراه المؤمنون، أما الكافرون فمحجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال تعالى: ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) وأن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكاً، وأعلم بذلك موسى بأنه لا يراه في الدنيا. ونصدق جميع الروايات التي رواها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب تعالى يقول: (هل من سائل…. ) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتعطيل، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين ما كان في معناه، فلا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول: إن لله يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: ( وجاء ربك والملك صفاً صفاً) ثم يقول: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء.))
ثم تجد الإمام أبي الحسن يشرح ذلك باباً باباً وشيئاً شيئاً .
وذكر في كتابه (جملة المقالات): ( المعتزلة تقول في قول الله عز وجل: (الرحمن على العرش استوى) يعني استولى، قال: وتأولت اليد بمعنى النعمة، وقوله تجري بأعيننا أي بعلمنا، وأما الوجه فقد قالت المعتزلة فيه قولين: أولهم ما قاله أبو الهذيل: وجه الله هو الله، وقال غيره وهذا قولهم الثاني معنى قوله( ويبقى وجه ربك) أي يبقى ربك دون أن يثبتوا لله وجهاً.فنقول إن الله هو الله ولا يقال ذلك فيه).

وخير ما أختم وألخص به هذا البحث البسيط فيما وفقني إليه الله والعظيم في موضوعه هو قول الإمام يحيى بن يوسف الصرصري الأنصاري إمام الفقه واللغة والسنة والزهد والتصوف:

واهاً لفرط حرارة لا تبرد *** ولواعج بين الحشا تتردد
في كل يوم سنة مدروسة *** بين الأنام وبدعة تتجدد
صدق النبي ولم يزل متسربلاً *** بالصدق إذ يعد الجميل ويوعد
إذ قال يفترق الضلال ثلاثة *** زيدت على السبعين قولاً يسند
وقضى بأسباب النجاة لفرقة *** تسعى بسنته إليه وتحفد
فإن ابتغيت إلى النجاة وسيلة *** فاقبل مقالة ناصح يتقلد
إياك والبدع المضلة إنها *** تهدي إلى نار الجحيم وتورد
وعليك بالسنن المنيرة فاقفها *** فهي المحجة والطريق الأقصد
فالأكثرون بمبدعات عقولهم *** نبذوا الهدى فتنصروا وتهودوا
منهم أناس في الضلال تجمعوا *** وبسب أصحاب النبي تفردوا
قد فارقوا جمع الهدى وجماعة الإ *** سلام واجتنبوا التقى وتمردوا
بالله يا أنصار دين محمد *** نوجوا على الدين الحنيف وعددوا
لم يبق للإسلام ما بين الورى *** علم يسود ولا لواء يعقد
علقوا بحبل الكفر واعتصموا به *** والعالقون بحبله لن يسعدوا
وأشدهم كفراً جهول يدعي *** علم الأصول وفاسق متزهد
وإذا سألت فقيههم عن مذهب *** قال: اعتزال في الشريعة، يلحد
كالخائض الرمضاء أقلقه اللظى *** منها ففر إلى جحيم يوقد
إن المقال بالاعتزال لخطة *** عمياء حل بها الغواة المرّد
هجموا على سبل الهدى بعقولهم *** ليلاً فعاثوا في الديار وأفسدوا
صُمٌّ إذا ذكر الحديث لديهم  *** نفروا كأن لم يسمعوه وأبعدوا
واضرب لهم مثل الحمير إذا رأت *** أسد العرين فهن منهم شردوا
والجاحد الجهمي أسوأ منهما *** حالاً وأخبث في القياس وأفسد
أمسى لعرش الرب قال منزهاً *** من أن يكون عليه رب يعبد
ونفى القرآن برأيه والمصحف *** الأعلى المطهر عنده يتوسد
وإذا ذكرت له على العرش استوى *** قال: هو استولى، يحيل ويخلد
فإلى من الأيدي تمد تضرعاً *** وبأي شيء في الدجى يتهجد
وبما ينزل جبرائيل مصدقاً *** ولأي معجزة الخصوم تبلد
جلت صفات الحق عن تأويلهم *** وتقدست عما يقول الملحد
لما نفوا تنزيهه بقياسهم *** ضلوا وفاتهم الطريق الأرشد
ويقول لا سمع ولا بصر ولا *** وجه لربك ذي الجلال ولا يد
من كان هذا وصفه لألهه *** فأراه للأصنام سراً يسجد
الحق أثبتها بنص كتابه *** ورسوله، وغدا المنافق يجحد
فمن الذي أولى بأخذ كلامه *** جهم أم الله العلي الأمجد
والصحب لم يتأولوا لسماعها *** فهم إلى التأويل أم هو أرشد
هو مشرك ويظن جهلاً أنه *** في نفي أوصاف الإله موحد
يدعو من اتبع الحديث مشبهاً *** هيهات ليس مشبهاً من يسند
لكنه يروي الحديث كما أتى *** من غير تأويل ولا يتردد
وإذا العقائد بالضلال تحالفت *** فعقيدة الهدّيِ أحمدَ أحمدُ
هي حجة الله المنيرة فاعتصم *** بحبالها لا يلهينك مفسد
ابن ابن حنبل اهتدى لما اقتدى *** ومخالفوه لزيغهم لم يهتدوا
ما زال أحمد يقتفي أثر الهدى *** ويروم أسباب النجاة ويجهد
حتى ارتقى في الدين أشرف ذروة *** ما فوقها لمن ابتغاها مصعد
نصر الهدى إذ لم يقل ما لم يقل *** في فتنة نيرانها تتوقد
ما صده ضرب السياط ولا ثنى *** عزماته ماضي الغرار مهند
فهناه حبٌ ليس فيه تعصب *** لكن محبة مخلص يتودد
وودادنا للشافعي ومالك *** وأبي حنيفة ليس فيها تردد

وأخيراً: أرجو من الله عز وجل أن أكون قد وفقت في هذا البحث وأقنعت من كان في باله هذا السؤال أو من كان يصول ويجول وتتخبط أفكاره حول هذا السؤال.
وأن أكون قد أجبت عن الأسئلة التي تدور في ذهن من يريد الله والمعرفة حول هذا الموضوع.
وأن يكون هذه البحث مقبول عند الله عز وجل، ويطرح لي القَبول عند أهل العلم، والقبول عند العوام، وأن يكون لي صدقةً جاريةً إلى يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين….


وكتبهـا
العبد الفقير محمد عارف الأرناؤوط أبو دُجانة
في 7 شعبان 1425
الموافق ل 21 أيلول 2004

———————-
المراجع:
– كتاب شرح العقيدة الطحاوية.
– تفسير ابن كثير.
– العقيدة الواسطية.
– لسان العرب.
– القواعد المثلى لابن عثيمين.
– اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن فيم الجوزية.
– البداية والنهاية لابن كثير.
_ منهاج أهل السنة والجماعة لابن عثيمين للشيخ النعماني الأثري.
_ الأسماء والصفات للذهبي.
ـ تفسير الطبري.
-الإبانة في أصــول الديانة

228372: هل ثبت أن الإمام الشافعي رحمه الله قال : إن الله تعالى لا مكان له ؟


228372: هل ثبت أن الإمام الشافعي رحمه الله قال : إن الله تعالى لا مكان له ؟


السؤال:
هناك قول يقول : قال الشافعي رحمه الله: ” اعلموا أنَّ البارىء عز وجل لا مكان له ” رواه القشيري رحمه الله . وقال الأشعري رحمه الله: ” إنَّ الله تعالى لا مكان له ” رواه البيهقي. وقال الإمام أبو منصور البغدادي رحمه الله: ” وأجمعوا أنه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان ” أرجو الرد على هذا الكلام وتوضيحه ؟

تم النشر بتاريخ: 2015-05-10

الجواب :
الحمد لله
أولا :
أهل السنة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل .
فمن الصفات الواردة لله تعالى في القرآن والسنة النبوية : علو الله تعالى على خلقه ، فالله تعالى بذاته عالٍ فوق جميع مخلوقاته ، وقد ورد في القرآن الكريم في سبع آيات إثبات استواء الله تعالى على العرش ، ومعلوم أن العرش هو أعلى المخلوقات وسقفها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ) رواه البخاري (7423) .
والأدلة على علو الله تعالى على خلقه تتجاوز ألف دليل ، كما ذكر ذلك ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية (1/312) ، (2/191) .
وقد سبق بيان شيء من هذه الأدلة في جواب السؤال رقم : (992) ، (11035) .

ثانيا :
لفظ “المكان” لم يرد في القرآن الكريم إثباته لله ولا نفيه عنه ، وهو من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقا وباطلا ، فينبغي الاستفصال ممن أثبت هذا اللفظ لله تعالى أو نفاه ، فإن قصد حقا قُبل منه ، وكان التعبير بما ورد في القرآن والسنة من إثبات علو الله واستوائه على العرش : أولى ، وإن قصد باطلا كان مردودا .

فإن قصد بالمكان : أن الله جل جلاله قد حل في شيء ، أو أن شيئا من مخلوقاته يحيط به ، أو يحصره ، أو يحويه ؛ فلا شك أن هذه كلها معان باطلة ، ولا شك أيضا أن نفي هذا “المعنى” عن الله : حق ؛ ما في إطلاق النفي على اللفظ المحتمل من المأخذ الذي أشرنا إليه .

وإن قصد بالمكان : العلو فوق جميع الخلق ، وأن الله عالٍ بذاته فوق خلقه ، وأنه بائن عنهم ، ليس مختلطا بهم ، فهذا المعنى إثباته لله تعالى حق ، والتعبير عنه بالعلو والفوقية أولى ، ونفيه عن الله تعالى باطل ، لأنه نفي لعلو الله الثابت بنصوص القرآن والسنة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” … وهؤلاء يتكلمون بلفظ الجهة والحيز والمكان ، ويعنون بها تارة أمراً معدوماً، وتارة أمراً موجوداً، ولهذا كان أهل الإثبات ، من أهل الحديث والسلفية من جميع الطوائف ، فمنهم من يطلق لفظ (الجهة) ، ومنهم من لا يطلقه.
وكذلك لفظ (المكان) منهم من يطلقه ومنهم من يمنع منه.
وأما لفظ (التحيز) فمنهم من ينفيه، وأكثرهم لا يطلقه ولا ينفيه، لأن هذه ألفاظ مجملة تحتمل حقاً وباطلاً.
وإذا كان كذلك فيقال: قول القائل (إن الله في جهة أو حيز أو مكان) :
إن أراد به شيئاً موجوداً غير الله، فذلك من جملة مخلوقاته ومصنوعاته، فإذا قالوا: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، امتنع أن يكون محصوراً أو محاطاً بشيء موجود غيره، سواء سُمَّي مكاناً أو جهة أو حيزاً أو غير ذلك… فإن البائن عن المخلوقات ، العالي عليها : يمتنع أن يكون في جوف شيء منها…..
وإن أراد بمسمى الجهة والحيز والمكان : أمراً معدوماً، فالمعدوم ليس شيئاً، فإذا سَمَّى المُسَمِّي ما فوق المخلوقات كلها حيزاً وجهة ومكاناً، كان المعنى: أن الله وحده هناك، ليس هناك غيره من الموجودات: لا جهة ولا حيز ولا مكان، بل هو فوق كل موجود من الأحياز والجهات والأمكنة وغيرها، سبحانه وتعالى ” انتهى باختصار من “درء تعارض العقل والنقل” (7/ 15-17).
وقال أيضا :
” السلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا ” إنه فوق العرش ، وإنه في السماء فوق كل شيء ” لا يقولون إن هناك شيئا يحويه ، أو يحصره ، أو يكون محلا له ، أو ظرفا ووعاء ، سبحانه وتعالى عن ذلك ، بل هو فوق كل شيء ، وهو مستغن عن كل شيء ، وكل شيء مفتقر إليه ، وهو عالٍ على كل شيء ، وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته ، وكل مخلوق مفتقر إليه، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق ” انتهى من”مجموع الفتاوى ” (16/100-101) .

وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (183941) ، ورقم : (195996) .

ثالثا :
أما ما ذكرته عن الإمام الشافعي رحمه الله فقد رجعنا إلى كتاب “الرسالة” للقشيري ، وإلى تفسيره : “لطائف الإشارات” : فلم نجده نقل شيئا من هذا عن الإمام الشافعي ، وإنما نقل القشيري في “الرسالة” (ص 18-29) نحوا من هذا الكلام عن بعض الصوفية ، ولم ينقله عن أحد من أئمة العلم ، لا عن الشافعي رحمه الله ، ولا عن غيره من الأئمة المتبوعين في العلم والدين .

ثم إن هذه النقول التي نقلها القشيري نقلها بلا إسناد ، وتحتاج إلى البحث والنظر في أسانيدها حتى نتأكد من صحة نسبتها إلى من نسبت إليه ، حتى لا ينسب إلى أحد ما لم يقل .

والإمام الشافعي رحمه الله أجل من أن يقول مثل هذا الكلام ، فهو أحد أئمة أهل السنة والجماعة الكبار ، وأحد مجددي هذه الأمة ، والثابت عنه قطعا أنه يثبت لله تعالى ما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء وصفات على منهج أهل السنة والجماعة ، ومن ذلك : صفة العلو .
قال رحمه الله : خلافة أبي بكر حق ؛ قضاها الله في سمائه ، وجمع عليها قلوب أصحاب نبيه” .
نقله عنه الحافظ عبد الغني المقدسي في عقيدته (27) ، وابن قدامة في إثبات صفة العلو (124-125) ، وابن تيمية في ” الفتاوى ” (5/53-54، 139) ، وابن القيم في ” الجيوش “(59) وصححها عنه .
وفي جملة الاعتقاد المنسوب إليه :
” القول في السنة التي أنا عليها ، ورأيت عليها الذين رأيتهم ، مثل سفيان ومالك وغيرهما : الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الله على عرشه في سمائه ، يقرب من خلقه كيف شاء ، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء ، وذكر سائر الاعتقاد” انتهى .
رواه عنه الهكاري في “عقيدته” (18) ، ومن طريقه ابن قدامة في ” العلو ” : فـ (108) ، والذهبي كما في “مختصر العلو” بتحقيق الألباني (ص176) .

وأما أبو الحسن الأشعري رحمه الله فقد سبق في الفتوى رقم : (34531) أنه قد مر بعدة مراحل في حياته ، وانتهى إلى مذهب أهل السنة والجماعة ومات على ذلك ، وقد صرح بذلك في أواخر كتبه التي ألفها كـ “الإبانة” ، و ” مقالات الإسلاميين ” .
قال رحمه الله في كتابه “المقالات” (1/ 167-168):
” باب اختلافهم في البارئ هل هو في مكان دون مكان ؟ أم لا في مكان ؟ أم في كل مكان ؟ وهل تحمله الحملة أم يحمله العرش؟ وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة؟
… وذكر الأقوال المخالفة للسنة في هذا ، ثم قال :
“وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ، ولا يشبه الأشياء ، وأنه على العرش كما قال عز وجل : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ولا نقدم بين يدي الله في القول ، بل نقول : استوى بلا كيف … ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” انتهى .
وقال ـ أيضا ـ في كتابه “الإبانة” (18) :
” وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا …
وأن الله تعالى استوى على العرش ، كما قال : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) طه/5″ انتهى.
ثم إنه عقد بابا خاصا في : “ذكر الاستواء على العرش” ، قال فيه :
” إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟
قيل له : نقول :
إن الله عز وجل مستو على عرشه ، كما قال : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) طه/5 ، وقد قال عز وجل : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) فاطر/10 ، وقال عز وجل : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) النساء/158…
وقال عز وجل : ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ) الملك/16 ، فالسماوات فوقها العرش ؛ فلما كان العرش فوق السماوات ، قال : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ؛ لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات ، وكل ما علا فهو سماء ؛ فالعرش أعلى السماوات ..” .
انتهى من “الإبانة عن أصول الديانة” لأبي الحسن الأشعري (55) ط محب الدين الخطيب .
ثم ساق أدلة أخرى على ذلك ، ورد على من تأوله من المعتزلة ونحوهم .
وهو كلام غني عن البيان والشرح .
وليس في شيء من كتبه التي بين أيدينا : ما يخالف ذلك أصلا !!

وأما قول أبي منصور البغدادي في “الفرق بين الفرق” (ص 321): ” وأجمعوا على أنه لَا يحويه مَكَان ، وَلَا يجرى عَلَيْهِ زمَان ” انتهى .
فالجواب على هذا :
1- أن البغدادي أشعري المذهب ، وهو يعرض عقيدة الأشاعرة على أنها عقيدة أهل السنة . قال الشيخ محمد بن خليفة التميمي :
” كان أشعري المذهب ويدل على ذلك عدة أمور منها:
• اتفاق المترجمين له على نسبته إلى هذا المذهب.
• عرضه لعقيدة الأشعرية في كتابه الفرق بين الفرق على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية ، ولم يصنف الأشعرية على أنها إحدى الطوائف بل جعلهم هم أهل الحق.
• كتابه “أصول الدين” أكبر دليل على انتسابه إلى هذا المذهب ، فقد ألفه على طريقة المتكلمين في تقسيمه لأبوابه ، وتقريره لمسائل الاعتقاد على منهج الأشاعرة في مختلف الأبواب ” انتهى ، “مقدمات في علم مقالات الفرق” (ص 37) .
2- أن هذه الكلمة مجملة – كما سبق- فإنها تحتمل حقا وباطلا ، وإن كان الظاهر أنه يريد بها نفي صفة العلو كما هو مذهب الأشاعرة . وانظر للفائدة جواب السؤال رقم : (212475) .
3- وأما الإجماع الذي نقله : فهو باطل ، وفي مثل تلك الدعاوى ، قال الإمام أحمد رحمه الله : “من ادعى الإجماع فقد كذب ، هذه دعوى بشر الريس والأصم ” .
انتهى من “مجموع الفتاوى” (19/271) ، ” العدة في أصول الفقه ” (4/1059) ، والمريسي والأصم من رؤوس المعتزلة وأئمتهم .
قال ابن رجب رحمه الله في آخر “شرح الترمذي” : “وأما ما روي من قول الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فقد كذب . فهو إنما قاله إنكاراً على فقهاء المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه ، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين” انتهى من “التحبير شرح التحرير ” (4/1528) .
ولعل البغدادي يقصد إجماع أهل مذهبه (الأشاعرة) .

والإجماع الصحيح قطعا هو إجماع السلف على إثبات صفات الله تعالى كما أثبتها لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكيف ولا تمثيل .
وانظر كتاب ” العلو للذهبي” ، وكتاب “العرش” له أيضا ، وأيضا : “اجتماع الجيوش الإسلامية” لابن القيم ، و” الفتوى الحموية” لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لتقف على هذا الإجماع الصحيح ، وتقرأ مئات من الأقوال للأئمة والعلماء جيلا بعد جيل في السير على مذهب أهل السنة والجماعة .
والله تعالى أعلم .

مفهوم الاستواء عند الأشاعرة


مفهوم الاستواء عند الأشاعرة

الاستواء في اللغة:

جاء في كتاب الصحاح: “استوى على ظهر دابته، أي علا واستقر… واستوى إلى السماء، أي قصد. واستوى، أي استولى وظهر. وقال:

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق”[1].

وقال ابن سيده المرسي: “وقوله تعالى :{ثم استوى إلى السماء} [البقرة:29 ] قال أبو إسحاق: فيه قولان أحدهما صَعِد إلى السماء وقال قومٌ استوى إلى السماء عَمَد وقَصَد إلى السماء كما تقول قد فرغ الأمير من بَلَد كذا ثم اسْتَوَى إلى بَلَد كذا معناه قَصَد بالاسْتِواء إليه[2]، وقيل اسْتَوَى إلى السماء صَعِدَ أمرُه إليه، وفَسَّره ثعلب فقال: أقبل عليها، وقيل استَولى …”[3]

وقال الزبيدي في تاج العروس: “(واستوى) قد يسند إليه فاعلان فصاعدا وهذا قد تقدم ذكره …وقولهم استوى فلان على عمالته واستوى يأمر …. (و) إذا عدى الاستواء بإلى اقتضى معنى الانتهاء إليه إما بالذات أو بالتدبير، وعلى الثاني قوله عز وجل: “ثم استوى ( إلى السماء ) وهى دخان” قال الجوهرى: أي ( صعد )، وهو تفسير ابن عباس، ويعنى بقوله ذلك أي صعد أمره إليه، قاله أبو إسحاق (أو عمد) إليها (أو قصد) إليها كما تقول فرغ الأمير من بلد كذا، ثم استوى إلى بلد كذا، معناه قصد الاستواء إليه قاله أبو إسحاق (أو أقبل عليها) عن ثعلب. قال الراغب: ومتى ما عدى بعلى اقتضى معنى الاستيلاء كقوله عز وجل:{ الرحمن على العرش استوى}…ثم قال الراغب وقيل معناه ثم استوى كل شيء في النسبة إليه فلا شيء أقرب إليه من شيء؛ إذ كان عز وجل ليس كالأجسام الحالة في مكان دون مكان”[4].

وقال الأزهري: “وقول الله جل وعز: {خَلقَ لَكُمْ ما في الأرْضِ جَمِيعاً ثمّ استَوى إلى السَّماء}.

قال الفراء: الاستواء في كلام العرب على جهتين إحداهما أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوَّته أو يستوي من اعوجاج، فهذان وجهان، ووجه ثالث أن تقول: كان فلان مُقبلا على فلان ثم استوى عليَّ وإليَّ يُشاتمني، على معنى: أقبل إليّ وعليّ، فهذا معنى قوله تعالى: {ثمّ اسْتَوَى إلى السّماء} والله أعلم.

قال الفراء: وقال ابن عباس: {ثم استوى إلى السماء} صَعِد، وهذا كقولك للرجل: كان قائماً فاستوى قاعداً، وكان قاعداً فاستوى قائماً وكلٌّ في كلام العرب جائز.

وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: في قول الله تعالى: {الرّحْمنُ على العَرْشِ اسْتَوى} قال: الاستواء الإقبال على الشيء.

وقال الأخفش: استوى أي علا، ويقول: استويتُ فوق الدابة وعلى ظهر الدابة: أي علوته.

وجاء في لسان العرب: “قال داود بن علي الأصبهاني كنت عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال ما معنى قول الله عز وجل {الرحمن على العرش استوى}؟ فقال ابن الأعرابي هو على عرشه كما أخبر. فقال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى. فقال ابن الأعرابي: ما يدريك؟ العرب لا تقول استولى على الشيء حتى يكون له مضاد فأيهما غلب فقد استولى، أما سمعت قول النابغة:

إلا لمثلك أو من أنت سابقه *** سبق الجواد إذا استولى على الأمد

وسئل مالك بن أنس: استوى كيف استوى؟ فقال: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة”[5].

وفي كتاب “الكليات” لأبي البقاء الكفوي: “الاستواء هو إذا لم يتعد بإلى يكون بمعنى الاعتدال والاستقامة، وإذا عدي بها صار بمعنى قصد الاستواء فيه، وهو مختص بالأجسام {واستوت على الجودي} أي استقرت {ولما بلغ أشده واستوى} أي تم {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} أي علوت وارتفعت. واختلف في معنى {الرحمن على العرش استوى} فقيل بمعنى استقر وهو يشعر بالتجسيم، وقيل بمعنى استولى، ولا يخفى أن ذلك بعد قهر وغلبة، وقيل بمعنى صعد، والله منزه عن ذلك أيضا، وقال الفراء والأشعري وجماعة من أهل المعاني معناه أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه، وهذا معنى {ثم استوى إلى السماء} لا على العرش. وقال ابن اللبان الاستواء المنسوب إلى الله تعالى بمعنى {اعتدل} أي قام بالعدل كقوله {قائما بالقسط} فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه تعالى …”[6].

الاستواء عند أبي الحسن الأشعري:

قال أبو الحسن الأشعري في ذكر الاستواء على العرش: “إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له نقول: إن الله عز و جل يستوي على عرشه استواء يليق به من غير طول استقرار، كما قال : {  الرحمن على العرش استوى} (5/20)، وقد قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}  من الآية ( 10 / 35 ) وقال تعالى: {بل رفعه الله إليه } من الآية ( 158 / 4 ) ( 1 / 106 ) وقال تعالى: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} من الآية ( 5 / 32 ) وقال تعالى حاكيا عن فرعون لعنه الله: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه} من الآيتين ( 36 – 37 / 40 ) كذّب موسى عليه السلام في قوله: إن الله سبحانه فوق السماوات.  وقال تعالى : {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض}  من الآية ( 16 / 67 )

فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: {أأمنتم من في السماء} من الآية ( 14 / 67 ) . . . لأنه مستو على العرش ( 1 / 107 ) الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السماوات وليس إذا قال: {أأمنتم من في السماء} من الآية ( 16 / 67 ) يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، ألا ترى الله تعالى ذكر السماوات فقال تعالى : {وجعل القمر فيهن نورا} من الآية ( 16 / 7 ) ولم يرد أن القمر يملأهن جميعا وأنه فيهن جميعا، ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض”[7].

وقال أيضا: “وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قول الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}(5/20) أنه استولى وملك وقهر، وأن الله تعالى في كل مكان. وجحدوا أن يكون الله عز و جل مستو على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة،

ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن الله تعالى قادر على كل شيء والأرض لله سبحانه (1 /109) قادر عليها وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء، وهو تعالى مستو على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقدار؛ لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلها، لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله تعالى مستو على الحشوش والأخلية ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيراـ لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها”[8].

وقال في رسالة إلى أهل الثغر: “وقال {الرحمن على العرش استوى} وليس استواؤه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر لأنه عز و جل لم يزل مستوليا على كل شيء”[9].

الاستواء عند القاضي أبي بكر الباقلاني:

قال أبو بكر الباقلاني “الإنصاف فيما يجب اعتقاده”: “وأن الله جل ثناؤه مستو عن العرش، ومستول على جميع خلقه كما قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى}. بغير مماسة وكيفية، ولا مجاورة، وأنه في السماء إله وفي الأرض إله كما أخبر بذلك”[10].

وقال أيضا: “ويجب أن يعلم: أن كل ما يدل على الحدوث، أو على سمة النقص، فالرب تعالى يتقدس عنه.

فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات، والاتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول، والانتقال، ولا القيام، والقعود؛ لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} وقوله: {ولم يكن له كفواً أحد}  وأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك فإن قيل أليس قد قال: {الرحمن على العرش استوى}. قيل: بلى. قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة، لكن ننفي عنه أمارة الحدوث، ونقول: استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول إن العرش له قرار، ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان” [11].

وقال في “الرد على الاتحادية”: “وأما قول من قال إن الاتحاد هو حلول الكلمة في الناسوت من غير مماسة، وأنه كحلول الباري سبحانه في السماء، وكحلوله على العرش من غير مماسة لهما، فإنه باطل غير معقول؛ وذلك أن الباري سبحانه ليس في السماء، ولا هو مستو على عرشه بمعنى حلوله على العرش؛ لأنه لو كان حالا في أحدهما، ومستويا على الآخر بمعنى الحلول، لوجب أن يكون مماسا لهما لا محالة”[12].

الاستواء عند إمام الحرمين الجويني:

قال إمام الحرمين في “الإرشاد”: “فإن قال قائل: قد ذكرتم أنه لا يمتنع اشتراك القديم والحادث في بعض صفات الإثبات، ففصلوا ما يختص بالحوادث من الصفات، وهي تستحيل في حكم الإله. قلنا: نذكر أولا ما يختص الجواهر به: فمما تختص الجواهر به التحيز، ومذهب أهل الحق قاطبة أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيز والتخصص بالجهات.

و ذهبت الكرامية  وبعض الحشوية  إلى أن الباري ـ تعالى عن قولهم ـ متحيز مختص بجهة فوق، ـ تعالى الله عن قولهم ـ. و من الدليل على فساد ما انتحلوه أن المختص بالجهات يجوز عليه المحاذاة مع الأجسام، وكل ما حاذى الأجسام لم يخل من أن يكون مساويا لأقدارها، أو لأقدار بعضها، أو يحاذيها منه بعضه، وكل أصل قاد إلى تقدير الإله أو تبعيضه فهو كفر صراح. ثم ما يحاذي الأجرام يجوز أن يماسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها كان حادثا، إذ سبيل الدليل على حدث الجواهر قبولها للمماسة والمباينة على ما سبق. فإن طردوا دليل حدث الجواهر، لزم القضاء بحدث ما أثبتوا متحيزا؛ وإن نقضوا الدليل فيما ألزموه انحسم الطريق إلى إثبات حدث الجواهر.

فإن استدلوا بظاهر قوله تعالى: {الرحْمن على الْعرْش اسْتوى}‏، فالوجه معارضتهم بآي يساعدوننا على تأويلها، منها قوله تعالى:{ و هو معكم أين ما كنْتمْ }[سورة الحديد: 4]، وقوله تعالى: {أفمنْ هو قائم على‏ كل نفْس بما كسبتْ} [سورة الرعد: 33]. فنسائلهم عن معنى ذلك؛ فإن حملوه على كونه معنى بالإحاطة والعلم، لم يمتنع منا حمل الاستواء على القهر والغلبة، وذلك شائع في اللغة، إذ العرب تقول استوى فلان على الممالك إذا احتوى على مقاليد الملك واستعلى على الرقاب. وفائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم المخلوقات في ظن البرية، فنص تعالى عليه تنبيها بذكره على ما دونه.

فإن قيل: الاستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سبق مكافحة ومحاولة قلنا: هذا باطل، إذ لو أنبأ الاستواء عن ذلك لأنبأ عنه القهر. ثم الاستواء بمعنى الاستقرار بالذات ينبي عن اضطراب واعوجاج سابق، والتزام ذلك كفر. ولا يبعد حمل الاستواء على قصد الإله إلى أمر في العرش، وهذا تأويل سفيان الثوري رحمه الله واستشهد عليه بقوله تعالى:{ ثم اسْتوى‏ إلى السماء وهي دخان} [سوره فصلت: 11]، معناه قصد إليها.

فإن قيل: هلا أجريتم الآية على ظاهرها من غير تعرض للتأويل، مصيرا إلى أنها من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله، قلنا: إن رام السائل إجراء الاستواء على ما ينبي عنه في ظاهر اللسان، و هو الاستقرار، فهو التزام للتجسيم، و إن تشكك في ذلك كان في حكم المصمم على اعتقاد التجسيم، و إن قطع باستحالة الاستقرار، فقد زال الظاهر، والذي دعا إليه من إجراء الآية على ظاهرها لم يستقم له، وإذا أزيل الظاهر قطعا فلا بد بعده في حمل الآية على محمل مستقيم في العقول مستقر في موجب الشرع. و الإعراض عن التأويل حذرا من مواقعة محذور في الاعتقاد يجر إلى اللبس والإيهام و استزلال العوام، وتطريق الشبهات إلى أصول الدين، وتعريض بعض كتاب الله تعالى لرجم الظنون”[13].

وقال في لمع الأدلة: “فإذا ثبت تقدس الباري عن التحيز والاختصاص بالجهات فيرتب على ذلك تعاليه عن الاختصاص بمكان، وملاقاة أجرام وأجسام، فإن سُئلنا عن قوله تعالى:{ الرحمن على العرش استوى}، قلنا: المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو، ومنه قول العرب استوى فلان على المملكة أي استعلى عليها واطردت له، ومنه قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق”[14].

وقال في “الشامل”: “وقد افترق الأئمة في وجه الكلام على الآية (الرحمن على العرش استوى) فتمنع بعضهم عن تأويلها، وأجراها على تنزيلها، ولكن مع القطع ينفي الجهات والمحاذيات والكيفية، والكمية، وهذا القائل لا يستبعد أن يكون في القرآن أسرار لا يطلع عليها الخلائق، والرب مستأثر بعلمها، وإنما يجوز هذا القائل ذلك مع الاعتراف بأن المغيب عن الخلق من المعاني المكنونة، المستأثر بعلمها المصونة، لا تكون مما تمس الحاجة إليه في عقد أو قضية تكليف…

فإن سلك سالك هذه الطريقة، وكان يعتقد تقدس القديم عن مشابهة الحوادث، ويؤمن باستوائه على عرشه، وينكف عن تكييفه وتأويله، فلا يعترض على من قال ذلك بما يقطع به.

ثم نقول للمتمسكين بالآية المدّعين التّمسك بالظواهر ليس لكم المزيد على ظاهرها وتعدى مطلقها… ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات بظواهر هذه الآيات، ألزمه سوق كلامه أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات تمسكاً بالظاهر”[15].

وقال في “النظامية”: “وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب. فقال: والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة، وهو حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة.وقد درج صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها؛ فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الله عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تعالى،… فلتجر آية الاستواء والمجيء، وقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ}[الرحمن:27]، وقوله:{ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه”[16].

الاستواء عند أبي اسحاق الشيرازي:

قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في “معقتده”:”في [أن الله مستو على العرش] ثم يعتقدون ـ أي الأشاعرة ـ أن الله تعالى مستو على العرش، قال الله:{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}[غافر:65]، وإن استواءه ليس باستقرار ولا ملاصقة لأن الاستقرار والملاصقة صفة الأجسام المخلوقة، والرب عز وجل قديم أزلي. فدل على أنه كان ولا مكان، ثم خلق المكان، وهو على ما عليه كان”[17].

الاستواء عند الإمام أبي حامد الغزالي:

قال الإمام الغزالي في القطب الأول في النظر في ذات الله تعالى: “الدعوى الثامنة: ندعي أن الله تعالى منزه عن أن يوصف بالاستقرار على العرش، فإن كل متمكن على جسم ومستقر عليه مقدر لا محالة، فإنه إما أن يكون أكبر منه أو أصغر أو مساوياً، وكل ذلك لا يخلو عن التقدير، وأنه لو جاز أن يماسه جسم من هذه الجهة، لجاز أن يماسه من سائر الجهات فيصير محاطاً به، والخصم لا يعتقد ذلك بحال وهو لازم على مذهبه بالضرورة، وعلى الجملة لا يستقر على الجسم إلا جسم، ولا يحل فيه إلا عرض وقد بان أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض، فلا يحتاج إلى إقران هذه الدعوى بإقامة البرهان. فإن قيل فما معنى قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}؟ وما معنى قوله عليه السلام: “ينزل اللّه كل ليلة إلى السماء الدنيا ” قلنا الكلام على الظواهر الواردة في هذا الباب طويل ولكن نذكر منهجاً في هذين الظاهرين يرشد إلى ما عداه وهو أنا نقول: الناس في هذا فريقان عوام وعلماء، والذي نراه اللائق بعوام الخلق أن لا يخاض بهم في هذه التأويلات بل ننزع عن عقائدهم كل ما يوجب التشبيه ويدل على الحدوث ونحقق عندهم أنه موجود ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وإذا سألوا عن معاني هذه الآيات زجروا عنها، وقيل ليس هذا بعشكم فادرجوا فلكل علم رجال. ويجاب بما أجاب به مالك بن أنس رضي الله عنه، بعض السلف حيث سئل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، وهذا لأن عقول العوام لا تتسع لقبول المعقولات، ولا إحاطتهم باللغات، ولا تتسع لفهم توسيعات العرب في الاستعارات.

وأما العلماء فاللائق بهم تعريف ذلك وتفهمه، ولست أقول أن ذلك فرض عين؛ إذ لم يرد به تكليف، بل التكليف التنزيه عن كل ما تشبهه بغيره. فأما معاني القرآن، فلم يكلف الأعيان فهم جميعها أصلاً ولكن لسنا نرتضي قول من يقول، أن ذلك من المتشابهات كحروف أوائل السور، فإن حروف أوائل السور ليست موضوعة باصطلاح سابق للعرب للدلالة على المعاني، ومن نطق بحروف وهن كلمات لم يصطلح عليها، فواجب أن يكون معناه مجهولاً إلا أن يعرف ما أردته، فإذا ذكره صارت تلك الحروف كاللغة المخترعة من جهته……فلنرجع إلى معنى الاستواء والنزول؛ أما الاستواء فهو نسبة للعرش لا محالة، ولا يمكن أن يكون للعرش إليه نسبة إلا بكونه معلوماً، أو مراداً، أو مقدوراً عليه، أو محلاً مثل محل العرض، أو مكاناً مثل مستقر الجسم. ولكن بعض هذه النسبة تستحيل عقلاً وبعضها لا يصلح اللفظ للاستعارة به له، فإن كان في جملة هذه النسبة، مع أنه لا نسبة سواها، نسبة لا يخيلها العقل، ولا ينبو عنها اللفظ، فليعلم أنها المراد إما كونه مكاناً أو محلاً، كما كان للجوهر والعرض، إذاً اللفظ يصلح له ولكن العقل يخيله كما سبق، وإما كونه معلوماً ومراداً فالعقل لا يخيله، ولكن اللفظ لا يصلح له، وإما كونه مقدوراً عليه وواقعاً في قبضة القدرة ومسخراً له مع أنه أعظم المقدورات ويصلح الاستيلاء عليه لأن يمتدح به وينبه به على غيره الذي هو دونه في العظم، فهذا مما لا يخيله العقل ويصلح له اللفظ، فأخلق بأن يكون هو المراد قطعاً، أما صلاح اللفظ له فظاهر عند الخبير بلسان العرب، وإنما ينبو عن فهم مثل هذا أفهام المتطفلين على لغة العرب الناظرين إليها من بعد الملتفتين إليها التفات العرب إلى لسان الترك حيث لم يتعلموا منها إلا أوائلها، فمن المستحسن في اللغة أن يقال استوى الأمير على مملكته، حتى قال الشاعر:

قد استوى بشير على العراق … من غير سيف ودم مهراق

ولذلك قال بعض السلف رضي الله عنهم: يفهم من قوله تعالى:{الرحمن على العرش استوى} ما فهم من قوله تعالى {ثم استوى إلى السماء وهي دخان}[18].

وقال أيضا في الأربعين في أصول الدين في الأصل الثاني في التقديس: “… وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن المماسة والاستقرار، والتمكن والحلول والانتقال.

لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى ثخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، كما لا تزيده بعدا عن الأرض والثرى، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى….”[19]

وقال في “الإحياء”: “…العلم بأنه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله تعالى بالاستواء وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء وهو الذي أريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء كما قال الشاعر :  قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق” [20].

الاستواء عند الإمام عبد الكريم الشهرستاني:

قال الشهرستاني في إبطال التشبيه: “….وقد تخطى بعض الكرامية إلى إثبات الجسمية فقال: أعني بها القيام بالنفس، وذلك تلبيس على العقلاء وإلا فمذهب أستاذهم مع اعتقاد كونه محلاً للحوادث قائلاً بالأصوات مستوياً على العرش استقراراً مختصاً بجهة فوق مكاناً واستعلاءً فليس ينجيه من هذه المخازي تزويرات ابن هيصم فليس يريد بالجسمية القائم بالنفس، ولا بالجهة الفوقية علاءً، ولا بالاستواء استيلاءً، وإنما هو إصلاح مذهب لا يقبل الإصلاح وإبرام معتقد لا يقبل الإبرام والإحكام، وكيف استوى الظل والعود أعوج، وكيف استوى المذهب وصاحب المقالة أهوج. والله الموفق”[21] .

مفهوم الاستواء عند أبي بكر الرازي:

قال رحمه الله في “مفاتيح الغيب”: “قال الله تعالى {الرحمن على العرش استوى}؛ دل الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان، فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة، فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين، وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه، والفطرة الأصلية تشهد بصحته. وبالله التوفيق”[22].

الاستواء عند الإمام سيف الدين الآمدي:

قال في “أبكار الأفكار” في: “الصفة التاسعة: «الاستواء على العرش»

قال الله تعالى:{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}.

وقد اختلف أهل الملة في ذلك.

فمنهم: من حمله على الاستقرار والمماسة للعرش: كالمشبهة وهو باطل لأنه لو كان مستقرا على العرش. والعرش جسم من الأجسام؛ فإما أن يكون مساويا له، أو أكبر، أو أصغر، والكل محال لما سيأتى في  إبطال ما لا  يجوز على الله تعالى.

وعلى هذا فما نقل عن بعض الأئمة المشهورين من قوله: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب».

إن أراد بالاستواء المعلوم: الاستقرار والمماسة فهو محال.

وإن أراد به استواء لا كاستوائنا، كما ذهب إليه السلف، والشيخ أبى الحسن الأشعرى في أحد قوليه فغير معلوم لعدم دلالة القاطع عليه، وعدم دلالة اللفظ عليه لغة كما سبق، وما عداه فالاحتمالات فيه متعارضة، على ما يأتى.

ومنهم من توقف. والتوقف إن كان للتردد بين الاستواء بمعنى الاستقرار، وغيره من الاحتمالات فخطأ ضرورة انتفاء الاستواء بمعنى الاستقرار قطعا، وإن كان للتردد بين ما عدا ذلك من الاحتمالات لعدم القطع بواحد منها على سبيل التعيين فلا بأس به.

ومنهم: من صار إلى التأويل. والقائلون بالتأويل فقد اختلفوا:

فمنهم من حمل الاستواء في الآية على الاستيلاء، والقهر. ومنه قول العرب:

استوى الأمير على مملكته، عند دخول العباد في طاعته. ومنه قول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق  أى استولى.

وقال الآخر:

ولمّا علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وطائر  أي استولينا عليهم وهو من أحسن التأويلات وأقربها.

فإن قيل: حمل الاستواء على الاستيلاء، يشعر بسبق المغالبة وتقدم المقاومة وهو ممتنع على الله تعالى.

سلمنا عدم إشعاره بذلك، غير أنه لا فائدة في تخصيص العرش بذلك، مع تحقيقه بالنسبة إلى كل الحوادث.

قلنا: أما الأول، فإنه وإن جاز أن يكون الاستيلاء مسبوقا بالمقاومة، ولكن لا يلزم أن يكون مسبوقا بها، ولا لفظ الاستيلاء مشعر به، وإلا لكان لفظ الغالب مشعر به وليس كذلك. بدليل قوله تعالى:{ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلى َ أَمْرِهِ}[ يوسف: 12/ 21].

وأما الثانى: فمندفع أيضا فإنه جاز أن تكون فائدة تخصيص العرش بالذكر للتشريف، كما سبق. وجاز أن يكون ذلك للتنبيه بالأعلى على الأدنى من حيث أن العرش في اعتقاد الخلائق أعظم المخلوقات، وأجل الكائنات.

ومنهم: من حمل الاستواء في الآية على الاستعلاء والرفعة، وينقدح فيه الإشكالان السابقان، وجوابهما ما سبق.

ومنهم: من حمله على القصد والإرادة لخلق العرش؛ فإن الاستواء قد يطلق بمعنى القصد. ومنه قوله تعالى:{ ثُمَّ اسْتَوى َ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}[ فصلت: 41/ 11]: أى قصد إلى السماء.

وفيه نظر فإن الاستواء وإن أطلق بمعنى القصد عند صلته بـ “إلى” فلا يلزم مثله، عند صلته بـ “على” ولهذا يحسن أن يقال: فلان قاصد إليك، ولا يقال: قاصد عليك”[23].

الاستواء عند الإمام أبي عبد الله القرطبي:

قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} هذه مسألة الاستواء؛ وللعلماء فيها كلام وإجراء. وقد بينا أقوال العلماء فيها في الكتاب”الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى” [24] وذكرنا فيه هناك أربعة عشر قولا. والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيز، فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم؛ لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين. وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته”[25].

 

وقال في موضع آخر: “والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف، كما كون استواء المخلوقين. وقال ابن عباس: يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة”[26].

 

إعداد الباحث: يوسف الحزيمري

 

الهوامش:

 

[1] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية – دار العلم للملايين (6/ 2385).

[2] وهو قول الزجاج، تهذيب اللغة (4/ 340).

[3] المحكم والمحيط الأعظم (8/ 640).

[4] تاج العروس (ص: 8443-8444).

[5] لسان العرب (14/ 408).

[6] كتاب الكليات ـ لأبى البقاء الكفومى (ص: 150-151).

[7] الإبانة عن أصول الديانة – الأشعري، دار الأنصار – القاهرة، الطبعة الأولى  1397هـ (ص: 105).

[8] الإبانة عن أصول الديانة – الأشعري،(ص: 108).

[9] رسالة إلى أهل الثغر تح: عبدالله شاكر محمد الجنيدي، مكتبة العلوم والحكم  – دمشق الطبعة الأولى ، 1988م (ص:234).

[10]الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، لأبي بكر الباقلاني، تقديم محمد زاهد الكوثري، عنى بنشره عزت العطار الحسيني، سنة 1369هـ/1950م(ص:22).

[11] الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، لأبي بكر الباقلاني (ص:36).

[12] تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل، للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني،  تح: عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى 1407هـ/1987م(ص:111).

[13] “الإرشاد ” عبد الملك الجوينى، دار الكتب العلمية، (ص: 22-23).

[14] لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة، عبدالملك الجويني، تح: د.فوقية حسين محمود، عالم الكتب  – بيروت، الطبعة الثانية، 1987م، (ص:108).

[15] الشامل في أصول الدين، لعبد الملك الجويني، حققه وقدم له علي سامي النشار وفيصل بدير عون وشهيد محمد مختار، نشر منشأة المعارف بالاسكندرية، (ص:550 وما بعدها).

[16]  العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، إمام الحرمين الجويني، تحقيق وتعليق محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، 1412هـ/1992م(ص:33-34).

[17]  معتقد أبي إسحاق الشيرازي ضمن شرح اللمع له، تح: عبد المجيد تركي، نشر دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى،1408هـ/1988م (1/101).

[18] الاقتصاد في الاعتقاد لأبي حامد الغزالي وضع حواشيه عبد الله محمد الخليلي دار الكتب العلمية الطبعة الأولى، 1424هـ/2004م (ص:38).

[19] الأربعين في أصول الدين لأبي حامد الغزالي عني به بوجمعة عبد القادر مكري، دار المنهاج الطبعة الأولى 1426هـ/2006م (ص:40)

[20] إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، دار المعرفة – بيروت (1/ 108).

[21] نهاية الإقدام في علم الكلام، للإمام عبد الكريم الشهرستاني، حرره وصححه ألفريد جيوم مكتبة الثقافة الدينية الطبعة الأولى، 1430هـ/2009م (ص:116-117).

[22]مفاتيح الغيب للرازي، دار الكتب العلمية – بيروت – 1421هـ – 2000 م (7/ 153) وانظر كلامه في المسألة العاشرة :”في أنه سبحانه وتعالى منزه عن المكان والجهة والحيز” من كتابه المسائل الخمسون في أصول الدين  تح: أحمد حجازي السقا، دار الجيل بيروت الطبعة الثانية 1410هـ/1990(ص:38 وما بعدها).

[23] أبكار الأفكار في أصول الدين للإمام سيف الدين الآمدي، تحقيق: أ. د. أحمد محمد المهدي، مطبعة دار الكتب والآثار القومية بالقاهرة الطبعة الثانية1424 هـ – 2004 م(1/461-463).

[24] انظر الكتاب عند قوله باب: ما جاء في قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}. (2/121 وما بعدها).

[25] تفسير القرطبي، تح: هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة : 1423هـ/ 2003م (7/ 219).

[26] تفسير القرطبي (11/ 169).

هل الله عز وجل في كل مكان؟


هل الله عز وجل في كل مكان؟

أستفسر عن الآيات الكريمة التالية، يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) . والآية الأخرى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . يقول: على حُسْنِ قول الناس منهم مَنْ يقول بأن الله موجود في السماء، والبعض يقول بأن الله موجود في كل مكان. اشرحوا لنا ذلك مأجورين؟

الجواب

هذه مسألة عظيمة مهمة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه العلي، وأنه الأعلى، وأنه القاهر فوق عباده، وأن الأمور تتنزل من عنده وتعرج إليه، وأنه في السماء، وكل هذا يدل على علوه جل وعلا، وأنه فوق كل شيء. فأما قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) فالمراد بذلك الألوهية، لا ذات الرب عز وجل، فقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) فالمراد بذلك أن ألوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، فقول القائل: فلان أمير في المدينة وفي مكة، مع أنه في إحداهما وليس فيهما جميعاً وإنما إمرته ثابتة في المدينة وفي مكة، فالله تعالى إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض، وأما هو نفسه جل وعلا ففوق سماواته على عرشه، وعلى هذا فلا منافاة بين هذه الآية وبين قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . ومعنى قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي: إنه علا على العرش؛ لأن استوى في اللغة العربية إذا عديت بعلى صار معناها العلو، كقوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي: علوت، وقوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) – أي: تعلوا على ظهوره- (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي: علوتم عليه، فهو سبحانه تعالى مستوٍ على العرش أي: عال عليه، وهذا العلو ليس هو العلو العام لجميع المخلوقات، بل هو علو خاص مختص بالعرش، ولهذا يقال: استوى على العرش، ولا يقال: استوى على السماء، ويقال: علا على العرش وعلا على السماء، فالاستواء على العرش علو خاص ليس هو العلو العام لجميع المخلوقات. وقد أخطأ وضل من فسر الاستواء هنا بالاستيلاء والملك, أخطأ من عدة أوجه: الوجه الأول: أنه مخالف لمقتضى اللغة العربية، فلم تأتِ استوى على كذا بمعنى استولى عليه في اللغة العربية، وها هو كلام العرب بين أيدينا لا نعلم أنَّ منهم من عبر عن الاستيلاء بالاستواء أبداً، فأما ما قيل:
قد استوى بِشرٌ على العراق من غير سيف أو دم مهراق
فإننا نطالب أولاً بصحة النقل عن شاعر عربي من العرب الخُلَّص، ولا يمكن لأحد أن يثبت ذلك، ثم على فرض أنه ثبت عن شاعر عربي من العرب الخُلَّص فإنَّ هنا قرينةً تمنع أن يكون المراد بذلك العلو على العراق؛ لأن الرجل لا يمكن أن يعلو على العراق علواً ذاتياً، وحينئذ يكون المراد به العلو المعنوي وهو الاستيلاء، أما علو الله تعالى نفسه على عرشه فلا مانع منه لا عقلاً ولا سمعاً. ثانياً: أن نقول: إن تفسير الاستواء بالاستيلاء مخالف لما كان عليه السلف الصالح وأئمة الخلف، فإنهم مجمعون على أن استوى على العرش بمعنى علا عليه، ولم يأت عن أحد منهم حرف واحد يدل على أنهم فسروا الاستواء بالاستيلاء، ومعلوم أن مخالفة السلف ضلال وخروج عن جماعة الحق. ثالثاً: أنه يلزم على تفسير (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) استولى عليه أن يكون العرش قبل هذا ملكاً لغير الله، وأن الله تعالى بالمعالجة حصل عليه من غيره، وهذا لازم باطل جد البطلان. رابعاً: أننا إذا فسرنا استوى باستولى لجاز أن نقول: إن الله استوى على الأرض، وعلى الإنسان، وعلى الجمل، وعلى السفينة، وعلى كل شيء؛ لأنَّ الله تعالى مستولٍ على كل شيء ومالكٌ له، ومعلوم أنه لا أحد يُسَوِّغ أن يقول القائل إن الله استوى على الإنسان، أو على الأرض، أو ما أشبه ذلك. خامساً: أنَّ الذين فسروه بالاستيلاء مضطربون ومختلفون، واضطراب أهل القول فيه يدل على عدم رسوخه وعدم صحته، وعلى هذا فلا يحل لأحدٍ أن يفسر قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أو قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) بأن المعنى استولى عليه من أجل هذه الوجوه التي ذكرناها، فالاستواء على العرش يلزم منه العلو المطلق على جميع المخلوقات، وأن الله تعالى عال بنفسه على جميع المخلوقات، ولا يعارضه ما ذكره السائل من قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ) ؛ لما ذكرنا في صدر الجواب. ونظير هذه الآية- أعني قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ) – قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) فقال: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) وليس المعنى أنه نفسه في السماوات وفي الأرض، ولكن المعنى: أن ألوهيته ثابتة في السماوات وفي الأرض. وليعلم أن اعتقاد أن الله تعالى نفسه في كل مكان اعتقاد باطل، لو شعر الإنسان بلوازمه الباطلة ما تفوه به؛ لأنه يلزم من هذا القول أن يكون الله تعالى في كل مكان من الأماكن الطيبة والأماكن الخبيثة، بل لَلَزِمَ منه أن يكون الله تعالى في أجواف الحيوانات وأجواف الناس وما أشبه ذلك، ثم يلزم من هذا أحد أمرين: إما أن يتعدد بتعدد الأمكنة، وإما أن يكون متجزئاً بعضه هنا وبعضه هناك، وكل هذه لوازم فاسدة، تصورها كاف في ردها وإفسادها. ومَنْ قال: إن الله تعالى نفسه في كل مكان، فهو ضال مبتدع ما قَدَر الله حق قدره، ولا عرف عظمته جل وعلا، وكيف يكون في كل مكان وهو الذي قد وسع كرسيه السماوات والأرض؟ (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) . فليتق الله قائل هذا، وليتب إلى ربه قبل أن يدركه الموت على هذه العقيدة الفاسدة، ويلقى ربه على خبث العقيدة وفساد الطوية، نسأل الله السلامة.

المجيب: ابن عثيمين

ادعاء أن الله – عز وجل – كائن في كل مكان بذاته (*)


ادعاء أن الله – عز وجل – كائن في كل مكان بذاته (*)

مضمون الشبهة:

يعتقد بعض الطوائف أن الله – عز وجل – في كل مكان بذاته، على ما في ذلك من تمهيد للقول بالحلول واختلاطه – عز وجل – بمخلوقاته، وينكرون ما تواتر عن السلف والأئمة من إثبات استوائه – عز وجل – على عرشه وعلوه وفوقيته. وقد يستدلون على ذلك بظواهر بعض الآيات، كقوله عز وجل: )وهو معكم أين ما كنتم( (الحديد: ٤).

وجها إبطال الشبهة:

1) إثبات العلو والفوقية لله – سبحانه وتعالى – عقيدة ثابتة لها دلائلها الكثيرة من نصوص القرآن، فضلا عن دلالة الفطرة والعقول السوية.

2)  علوه – سبحانه وتعالى – لا ينافي شمول علمه وإحاطته بالخلائق، وأنه أقرب إليهم من حبل الوريد[i][1].

التفصيل:

أولا. إثبات العلو والفوقية لله سبحانه وتعالى:

أخبرنا الله – سبحانه وتعالى – أنه في السماء مستو على عرشه: )أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور (16) أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير (17)( (الملك)، وفي الحديث الصحيح: «أنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء»[ii][2].

وفي الصحيح أيضا «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سأل جارية معاوية بن الحكم السلمي “أين الله؟ قالت: في السماء. قال: “من أنا؟ قالت أنت رسول الله، قال: “أعتقها فإنها مؤمنة»[iii][3].

معنى كونه – عز وجل – في السماء:

وليس المراد بأن الله – عز وجل – في السماء أن جرم[iv][4] السماء تحويه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل المراد بالسماء العلو والفوقية، فقد وصف نفسه – عز وجل – بأنه الأعلى: )سبح اسم ربك الأعلى (1)( (الأعلى). وبأنه العلي العظيم: )وسع كرسيه السمـاوات والأرض ولا يئــوده حفظهمــا وهـــو العلـي العظيــم (255)( (البقرة).

معنى استوائه على عرشه:

قال عز وجل: )الرحمن على العرش استوى (5)( (طه). ومذهب أهل السنة وأصحاب الحديث أنهم يثبتون استواءه على العرش، ولا ينفونه[v][5] ولا يكيفون[vi][6].

قال داود بن علي الأصبهاني: كنت عند ابن الأعرابي، فأتاه رجل فقال ما معنى قوله ـ عز وجل ـ: )الرحمـن على العرش استـوى(. فقال ابن الأعرابي: هو على عرشه كما أخبر، فقال: يا أبا عبد الله، إنما معناه استولى، فقال ابن الأعرابي: فما يدريك؟ العرب لا تقول استولى على الشيء حتى يكون له مضاد، فأيهما غلب فقد استولى عليه، أما سمعت قول النابغة:

إلا لمثلك أو من أنت سابقه

سبق الجواد إذا استولى على الأمد

وهذا النهج، وهو معرفة معنى الاستواء وجهل الكيفية والنهي عن البحث فيها – هو منهج السلف الصالح، فعندما سئل الإمام مالك عن قوله تعالى: )الرحمن على العرش استوى( كيف استوى! قال ما معناه: “الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة”.

ويقول القرطبى: “كان السلف الأول – رضي الله عنهم – لا يقولون بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله – سبحانه وتعالى – كما نطق كتابه، وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد أنه استوى على عرشه حقيقة، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته”[vii][7].

والعلو والفوقية ثابتان بالكتاب والسنة وإجماع الملائكة والأنبياء والمرسلين – عليهم السلام – وأتباعهم – على الحقيقة – من أهل السنة والجماعة، وهو سبحانه وتعالى فوقهم مستويا على عرشه عاليا على خلقه بائنا منهم، يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويرى حركاتهم وسكناتهم، لا تخفى عليه منهم خافية، والفطرة السليمة والقلوب المستقيمة مجبولة[viii][8] على الإقرار بذلك ولا تنكره، فأسماؤه الحسنى دالة على ثبوت جميع معاني العلو له تعالى كاسمه الأعلى، واسمه المتعالى، واسمه الظاهر وغيرها.

وهذه الأسماء تدل على ثبوت جميع معاني العلو لله تعالى ذاتا وقهرا وشأنا، ومن ذلك التصريح بالاستواء على عرشه كما قال عز وجل: )إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54)( (الأعراف)، وقوله عز وجل: )الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون( (2) (الرعد)، وفي حديث أنس في فضل الجمعة وتسميته في الآخرة “يوم المزيد” يقول في آخره: «وهو اليوم الذي استوى فيه ربك على العرش»[ix][9].

وعن أنس بن مالك – رضي الله عنهما – قال: «كانت زينب – رضي الله عنها – تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات»[x][10].

وعن جابر بن سليم قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردين[xi][11] فتبختر، فنظر الله إليه من فوق عرشه فمقته، فأمر الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها»[xii][12].

وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: «لما قبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال أبو بكر رضي الله عنه: “أيها الناس إن كان محمد إلهكم الذي تعبدونه فإن إلهكم قد مات، وإن كان إلهكم الله الذي في السماء فإن إلهكم لم يمت” ثم تلا قوله تعالى: )وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)( (آل عمران)» [xiii][13].

وعن أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه – قال: لما لعن الله إبليس وأخرجه من جنته ومن سماواته وأخزاه قال: “رب أخزيتني ولعنتني وطردتني عن سماواتك وجوارك، فوعزتك لأغوين خلقك ما دامت الأرواح في أجسادهم”، فأجابه الرب سبحانه وتعالى فقال: “وعزتي وجلالي وارتفاعي على عرشي، لو أن عبدي أذنب حتى ملأ السماوات والأرض خطايا، ثم لم يبق من عمره إلا نفس واحد، فندم على ذنوبه لغفرتها، وبدلت سيئاته كلها حسنات”[xiv][14].

ومن أقوال التابعين في مثل هذا ما روي عن كعب الأحبار رضي الله عنه أنه قال: قال الله – عز وجل – في التوراة: “أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي، ولا يخفى علي شىء في السماء ولا في الأرض” وعن مسروق أنه كان إذا حدث عن عائشة – رضي الله عنها – قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة الله المبرأة من فوق سبع سماوات[xv][15]. وعن سفيان قال: كنت عند ربيعة بن أبي عبد الرحمــن فسألــه رجـل فقـال: )الرحمـن علــى العـرش استـــوى (5)( (طه)، كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق.

ثانيا. علو الله – عز وجل – لا ينافي قربه؛ فقد أحاط علمه وقدرته بكل شىء:

إن استواء الله – عز وجل – على عرشه وإثبات فوقيته في السماء لا ينافيه أنه – عز وجل – في كل مكان بعلمه وقدرته، فلا يعزب عن علمه شىء دق أو جل في السماوات ولا في الأرض، وعندما نقول هذا لا نعني أنه تعالى يشغل حيزا مكانيا كسائر الأجسام، عندما نقول: إنه واحد أحد، فإننا نشير إلى جلاله وإلى عظمته، وعندما نقول إنه معنا نقصد أنه معنا بعلمه وقدرته لا بذاته وهو بلا شبيه، تعالى أن يكون له شبيه: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى).

أي أن الله – سبحانه وتعالى – على الرغم من أنه يحيط بنا بصفاته هذه، وأقرب إلينا من حبل الوريد، إلا أننا لا نملك الوصول إليه في عليائه سبحانه وتعالى.

والمقصود بقوله عز وجل: )وهو معكم أين ما كنتم( (الحديد: ٤)، أي بعلمه؛ لأن الآية تتكلم عن سعة علم الله وإحاطته بكل شىء )ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم (7)( (المجادلة).

إن نفوسا كثيرة من المؤمنين تستشعر معية ربها – سبحانه وتعالى – ومراقبته وجلالته على وجه أجلى ممن ينظرون إليهم من الناس، ويدعوهم ذلك إلى ملازمة أوامره ومجانبة نواهيه.

إن الله – سبحانه وتعالى – أمرنا أن ننظر إلى آثار رحمته، وأن نتفكر في خلقه، وليست عقولنا مؤهلة لأن تستوعب معية الله لنا أكثر من الاعتبار بآثار صفاته من علمه ورحمته، وتفضله وبره.

قال الإمام ابن تيمية في العقيدة الواسطية بعد أن سرد الآيات والأحاديث في الصفات: وقد دخل فيما ذكرنا من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر به في كتابه وتواتر عن رسول الله – سبحانه وتعالى – وأجمع عليه سلف الأمة من أنه – عز وجل – فوق سماواته على عرشه علي على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله عز وجل: )هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4)( (الحديد)، وليس معنى قوله )وهو معكم( أنه مختلط بالخلق؛ فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، والله سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته.

وكل هذا الكلام الذي ذكر عن الله تعالى من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله: “في السماء” أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان؛ فإن الله تعالى قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره[xvi][16].

وجاءت امرأة من “ترمذ” كانت تجالس جهما فدخلت الكوفة، فقيل لها: إن ههنا رجلا قد نظر في المعقول، يقال له أبو حنيفة فأتيه، فأتته فقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج وقد وضع كتابا سماه: (إن الله – عز وجل – في السماء دون الأرض. فقال له رجل: أرأيت قول الله عز وجل: )وهو معكم(؟ قال: هو كما تكتب إلى رجل: أني معك، وأنت غائب عنه.

وسئل الإمام أحمد: الله فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدره وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم، هو على عرشه، ولا يخلو شىء من علمه، وقيل له: ما معنى: )وهو معكم(؟ قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة.

وقال أبو عمرو الطلمنكى: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: )وهو معكم أين ما كنتم( ونحو ذلك من القرآن أنه علمه، وأن الله – عز وجل – فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله على عرشه فوق سماواته. وقال أبو نصر السجزى: “أئمتنا متفقون على أن الله – عز وجل – بذاته فوق العرش وعلمه بكل مكان”.

الخلاصة:

  • الله واحد أحد، في السماء مستو على عرشه، وليس معنى كونه في السماء أن جرم السماء تحويه – سبحانه وتعالى – بل المراد بالسماء العلو والفوقية، وليس معنى استوى على عرشه: استولى على عرشه، بل استواؤه سبحانه وتعالى، معلوم بلا كيفية ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تمثيل، )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى).
  • علو الله تعالى لا ينافي قربه، فقد طال علمه وقدرته كل شىء، فهو معنا بقدرته وعلمه وجلاله وإرادته؛ وعليه فعبارة “الله في كل مكان” خاطئة، إذا أراد بها قائلها أن الله كائن في كل مكان بذاته.

 

 

(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات، عبد الله عبد الفادي.

[xvii][1]. حبل الوريد: عرق في العنق، يضرب به المثل في القرب.

[xviii][2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن (4094)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2500).

[xix][3]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة (1227).

[xx][4]. الجرم: النجم أو الكوكب.

[xxi][5]. النفي: مذهب المعطلة، وهم الذين ينفون صفات الله تعالى، وينسبون إليه النقص.

[xxii][6]. التكييف: هو تعين كنه الصفة؛ يقال: كيف الشيء؛ أي: جعل له كيفية معلومة.

[xxiii][7]. العقيدة في الله، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار السلام، القاهرة، دار النفائس، الأردن، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص206.

[xxiv][8]. المجبولة: المفطورة، المطبوعة.

[xxv][9]. صحيح: أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (1841)، وصححه بمجموع الطرق في العلو (1/ 31).

[xxvi][10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب ) وكان عرشه على الماء ( (هود: ٧) (6984).

[xxvii][11]. البرد: الكساء.

[xxviii][12]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 63) برقم (6384)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4/ 474) برقم (1437)، وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (55).

[xxix][13]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب المغازي، باب ما جاء في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (37021)، والبزار في مسنده (1/ 61) برقم (103)، وصححه الذهبي في العلو (1/ 62).

[xxx][14]. انظر: معارج القبول بشرح سلم الوصول، حافظ بن أحمد حكمي، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص131: 150.

[xxxi][15]. ذكره الذهبي في العلو للعلي الغفار (317)، وقال: إسناده صحيح.

[xxxii][16]. انظر: معارج القبول بشرح سلم الوصول، حافظ بن أحمد حكمي، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ/ 1996م ، ج2، ص130: 150.

183941: هل يصح إطلاق القول بأن الله منزّه عن المكان والزمان ؟


183941: هل يصح إطلاق القول بأن الله منزّه عن المكان والزمان ؟


السؤال:
هل صحيح أننا يجب أن نؤمن بأن الله منزه عن المكان والزمان ؟ لأني يا شيخ قرأت هذا السؤال في أحد المواقع ، فبحثت عن إجابته ، فلم أجد إجابة سوى رد الألباني رحمه الله ، وهو يرد على الأحباش الذين أنكروا صفة العلو لله ، وأنا – والحمد لله – مقرة بأن الله مستوٍ على عرشه ، لكن عبارة تنزيه الله عن المكان والزمان لم أفهم ما المقصود منها ، وما واجبي كمسلمة ، لأن الشيطان بدأ يوسوس لي في عقيدتي ، وأني قد كفرت ، عياذا بالله ، وأنا أخاف على نفسي من عذاب الله ، وأخشى أن أقر بشيء غير صحيح ؟

تم النشر بتاريخ: 2014-06-30

الجواب :
الحمد لله
أولا :
إطلاق القول بأن الله تعالى منزه عن المكان والزمان إطلاق لا يصح لأمرين :
الأول : أنه إطلاق لم ترد به سنة ، ولا هو معروف في كلام السلف .
الثاني : أنه إطلاق يوهم معنى فاسدا ، وغالب من يقرر ذلك الكلام ، ويستعمله يريد به : نفي علو الله تعالى على خلقه ، واستوائه على عرشه ، فوق سمائه .

ولا شك أن نفي علو الله وفوقيته على خلقه : اعتقاد باطل ، وهو من أعظم ما خالف فيه الجهمية ، ورد عليهم السلف تلك الضلالة ، وقرروا أن اعتقاد ذلك : كفر برب العالمين ، مناقض لما تواترت به النصوص الشرعية ، وإجماع السلف ، ومناقض لما هو من ضرورة العقل ، ومقتضى الفطرة السليمة .

ثانيا :
مع غلبة إطلاق هذه العبارة في المعنى الباطل ، فلا مانع من سؤال قائلها عن مراده ، لنبين له ما في مراده من المعنى الشرعي الصحيح ، أو المقصد البدعي المردود ، مع التنبيه على المنع من مثل هذه الإطلاقات الموهمة في حق الله تعالى .

فإذا قال القائل ” ننزه الله عن المكان ” قلنا له : ماذا تعني بذلك ؟
فإن قال : أعني به أن الله تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته .
قلنا له : هذا معنى صحيح نوافقك عليه ؛ إذ كيف يحيط بالله الأول والآخر ، والظاهر والباطن : شيء من مخلوقاته ؛ بل الرب تعالى أعظم وأكبر من كل مخلوق ، قد وسع كرسيه السموات والأرض ، فقد روى البخاري (4812) ، ومسلم (2787) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟ ) .

وإن قال : أعلم ذلك ، ولكني أعني بالمكان ما وراء العالم من العلو ، فهو ينفي علو الله تعالى على خلقه .
قيل له : فهذا معنى فاسد باطل ، مناقض لصريح العقل ، وصحيح النقل .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” إن أراد بنفي المكان : المكان المحيط بالله – عز وجل – فهذا النفي صحيح ، فإن الله تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته ، وهو أعظم وأجل من أن يحيط به شيء ، كيف لا ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) ؟ .

وإن أراد بنفي المكان : نفي أن يكون الله تعالى في العلو ، فهذا النفي غير صحيح ، بل هو باطل بدلالة الكتاب والسنة ، وإجماع السلف والعقل والفطرة .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للجارية : أين الله ؟ . قالت : في السماء . قال لمالكها : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) رواه مسلم (537) .

وكل من دعا الله عز وجل فإنه لا ينصرف قلبه إلا إلى العلو ، هذه هي الفطرة التي فطر الله الخلق عليها ، لا ينصرف عنها إلا من اجتالته الشياطين ، لا تجد أحدا يدعو الله عز وجل وهو سليم الفطرة ، ثم ينصرف قلبه يمينا أو شمالا أو إلى أسفل ، أو لا ينصرف إلى جهة ، بل لا ينصرف قلبه إلا إلى فوق ” انتهى من ” مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين ” (1/196-197) .

وإن عنى بقوله هذا : أن الله في كل مكان حيث لا يحصره مكان ، فهو قول باطل أيضا ، بل هو من أبطل قول ، قال علماء اللجنة :
” من قال : إن الله في كل مكان بنفسه وذاته ، فهو حلولي خاطئ كافر ، ومن قال : إن الله في كل مكان بعلمه لا بذاته فهو مصيب ” انتهى من ” فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى ” (2 /38) .

وقال ابن القيم رحمه الله في نونيته (295) :
والرب فوق العرش والكرسي لا * يخفى عليه خواطر الإنسان
لا تحصروه في مكان إذ تقو * لوا ربنا حقا بكل مكان
نزهتموه بجهلكم عن عرشه * وحصرتموه في مكان ثان
لا تعدموه بقولكم لا داخل * فينا ولا هو خارج الأكوان

راجعي إجابة السؤال رقم : (11035) ، والسؤال رقم : (124469) .
ثالثا :
ومثل ذلك : إطلاق القول بأن الله تعالى منزه عن الزمان ؛ فإن هذا لا يعرف أيضا في كلام السلف ، ولا بد أن يستفسر من قائله ما يعني به ؟
فإن قال : أعني أن الله تعالى قبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، قلنا له : هذا معنى صحيح نوافقك عليه .
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم (2713) : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ … ) .

قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
” الأول والظاهر هو الله وحده سبحانه , وهو الذي قبل كل شيء ، وبعد كل شيء سبحانه وتعالى . وهو الظاهر فوق جميع خلقه , والباقي بعدهم ” انتهى من ” مجموع فتاوى ابن باز ” (7 /292) .

وإن قال : أعني به نفي صفات الرب التي تتعلق بالزمان ، وهو ما يطلق عليه : صفاته الفعلية ، أو أفعاله الاختيارية ، كالاستواء ، والنزول ، والضحك ، والرضا والغضب ، ونحو ذلك مما يتعلق بمشيئته سبحانه ، فيفعله متى شاء ، وإذا شاء ، ولا يفعله متى شاء وإذا شاء ؛ فنفى ذلك الباب ، وزعم أن الله منزه عن الزمان .

قلنا له : هذا معنى باطل فاسد لا نوافقك عليه ؛ لإجماع أهل السنة على إثبات صفة النزول للرب تعالى في ثلث الليل الآخر ، كما ثبتت به النصوص ، على الوجه الذي يليق به سبحانه ، وطردوا هذا الأصل فيما يشبه ذلك من الصفات الواردة في الباب كله .

والواجب عليك أيتها الأخت المسلمة ألا تفتحي باب الوساوس والشبهات على نفسك ، وما دام الله قد من عليك بالاعتقاد الصحيح ، فاجعلي نظرك وبحثك وتعلمك من كتب أهل السنة ، وعلمائها المعروفين قديما وحديثا ، مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، وكتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ومشايخ الدعوة أمثال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين ، وننصحك أيضا بالانتفاع بسلسلة : العقيدة في ضوء الكتاب والسنة ، لفضيلة الشيخ عمر سليمان الأشقر – رحمه الله .
مع الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، وسؤال الله العصمة منه ، والثبات على الدين ومنهج أهل السنة والجماعة ، وتقوى الله في السر والعلن ، لا يتسلط عليك الشيطان بوساوسه وشكوكه برحمة الله .
راجعي للفائدة إجابة السؤال رقم : (12315) ، والسؤال رقم : (39684) .

والله أعلم .

إيضاح حول استواء الرحمن على العرش


إيضاح حول استواء الرحمن على العرش

الخميس 10 جمادى الآخر 1430 – 4-6-2009

رقم الفتوى: 123232
التصنيف: قواعد في الأسماء والصفات

[ قراءة: 13647 | طباعة: 243 | إرسال لصديق: 0 ]

السؤال

أنتم تناقضون كلامكم،  والإمام الأشعري بريء منكم، لأنكم تشبهون الله بخلقه وتقولون هذا ما كان عليه. كيف تفسرون القرآن على ظاهره، والقرآن لا يفسر على الظاهر، هناك آيات محكمات وآيات متشابهات. العلماء فسروها ليس أنتم، أنتم تأخذونها على ظاهرها، وتناقضون القرآن، والقرآن لا يتناقض، لله صفات تليق به، وصفة العلو لا تليق بالله لأنها من صفات البشر، كيف تقولون إنكم لا تشبهون الله بشيء وتقولون إنه في السماء، أو جالس على العرش. أليس هذا من صفات البشر؟ ألا تعرفون ماذا قال الإمام أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر: قبل خلق المكان لم يكن يوجد لا فوق ولا تحت، ولا سماء ولا عرش، كان موجودا بلا مكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على ماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض. رواه مسلم. هذا الحديث ينافي ما تقولونه وتنسبونه إلى العلماء، العلماء كانوا على عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم،  وهي أن الله موجود بلا مكان. هناك تفسير يليق بالله وفسر العلماء بما يليق بالله، وآيات المتشابهات لها تفسير يليق بالله: السماء هي مهبط الرحمات وقبلة الدعاء، هكذا فسرها مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء، وليست مسكنا لله. والعرش هو جرم كبير له حجم والله ليس له حجم كي يكون جالسا عليه، هذا ينافي التوحيد. استوى لها كثير من المعاني كما فسر العلماء تأتي بمعنى قهر، تأتي بمعنى حفظه، وليس على ظاهرها، لو تركوها على ظاهرها لصار تناقض في القرآن، لأن أصرح آية  في القرآن أنه ليس كمثله شيء.  أسال الله أن يرزقني الفهم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

ففي كتاب الفقه الأكبر الذي ذكره السائل ما يكفي للرد على إشكالاته، ففيه: فصل في إثبات العلو.

  قال فيه الإمام أبو حنيفة: من قال: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض، فقد كفر. وكذا من قال: إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض. والله تعالى يدعى من أعلى لا من أسفل، ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء، وعليه ما روي في الحديث أن رجلا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقال: وجب علي عتق رقبة أفتجزئ هذه؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أمؤمنة أنت؟ فقالت: نعم. فقال: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة. اهـ.

وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 118504.

وفي كلام الإمام أبي الحسن الأشعري أيضا ما يكفي السائل الكريم لو كان مريدا للحق دون تعصب، فقد عقد ـ رحمه الله ـ في كتاب الإبانة عن أصول الديانة بابا بعنوان: ذكر الاستواء على العرش، قال فيه: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له: نقول: إن الله عز وجل يستوي على عرشه استواء يليق به من غير طول استقرار. كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.{طـه:5}.

وقد قال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ. {فاطر:10}. وقال تعالى: بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. {النساء:158}. وقال تعالى:  يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ. {السجدة:5}.وقال تعالى حاكيا عن فرعون لعنه الله: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ*أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا. {غافر:،37،36 }. كذب موسى عليه السلام في قوله: إن الله سبحانه فوق السماوات. وقال تعالى:  أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض.  فالسماوات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السماوات قال: أأمنتم من في السماء. لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: أأمنتم من في السماء. يعني جميع السماوات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، ألا ترى الله تعالى ذكر السماوات فقال تعالى: وجعل القمر فيهن نورا. ولم يرد أن القمر يملؤهن جميعا وأنه فيهن جميعا. ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز و جل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. انتهـى.

ثم عقد فصلا مفصلا للرد على المعتزلة والجهمية والحرورية القائلين إن معنى قول الله تعالى: الرحمن على العرش استوى. أنه استولى وملك وقهر، وأن الله تعالى في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عز وجل مستو على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فنرجو من السائل الكريم أن يراجع هذا الفصل بطوله لعظم فائدته ووضوحه.

 ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على رسالة أبي إسحاق الماراني في الذب عن أبي الحسن الأشعري وكتابه: الإبانة عن أصول الديانة. وهي متوفرة على موقع المكتبة الشاملة.

 وقد سبق لنا إيراد نقول عن علماء السنة في مسألة الاستواء في الفتوى رقم: 66332. كما سبق لنا بيان أن الله فوق عرشه بائن عن خلقه، والرد على من قال: إن الله في كل مكان، في الفتويين: 6707 ، 8825 . وكذلك بيان أن التجسيم والتشبيه كفر بالله، وتبرئة علماء أهل السنة من ذلك، في الفتويين: 19144 ، 31338.

والله أعلم.

 

هل يشترط قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

هل يشترط قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة
• هل يشترط قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة ؟ و هل من أدرك الركوع يعتد بتلك الركعة أم لا ؟ :

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى ….أما بعد:
فلاشك أن الصلاة من أهم العبادات , ولاشك أيضا أنها من الضرورى أن تؤدى على الصفة التى أدها رسول الله صلى الله عليه وسلم إستجابة لأمره الجامع :” وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي” وهذا يعنى البحث والتدقيق فى ما نقل الينا من السنة النبوية المشرفة فى ظل كلام أهل العلم الغر الميامين الذين بينوا ما فى كنوز السنة من أنوار وهداية …. ومن مسائل الصلاة التى كثر فيها اللغط والكلام والاختلاف قديما وحديثا مسألة حكم قراء الفاتحة فى الصلاة عموما وفى كل ركعة خصوصا … وهذه المسالة يترتب عليها مسالة أخرى وثيقة الصلة بهذه المسألة وهى مسألة الإعتداد بالركعة التى يدرك المأموم فيها الإمام راكعاً …. وأبدأ مستعينا بالله مستمدا منه وحده التوفيق فأقول:

*المسألة الأولى:
*حكم قراءة الفاتحة في الصلاة:
في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَقَالَ اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ” [م…ك…الصلاة].
والخداج النقصان… وأم القرآن اسم الفاتحة وسميت أم القرآن لأنها فاتحته كما سميت مكة أم القرى لأنها أصلها.
وقوله سبحانه وتعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) الحديث قال العلماء : المراد بالصلاة هنا الفاتحة سميت بذلك لأنها لا تصح إلا بها كقوله صلى الله عليه وسلم : ” الحج عرفة ” ففيه دليل على وجوبها بعينها في الصلاة قال العلماء : والمراد قسمتها من جهة المعنى لأن نصفها الأول تحميد لله تعالى . وتمجيد وثناء عليه , وتفويض إليه , والنصف الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقارأ.هـ….(قاله النووى فى شرح مسلم).
قال الشوكانى فى نيل الأوطار: باب فى البسملة هل هى من الفاتحة…..:
والحديث أيضاً يدل على وجوب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة وإليه ذهب الجمهور.أهـ
*وفى الحديث عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ”.[.خ…ك..الأذان].
وقال أبو عيسى الترمذى:
وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَغَيْرُهُمْ قَالُوا لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ إِلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ و قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ…..وقال: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ يَرَوْنَ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ.أ.هـ (الترمذى …ك.. الصلاة).

* وقوله “لا صلاة” نفى لذات الصلاة وحقيقتها لاكمالها…قال ابن حجر فى الفتح: ويؤيده رواية الإسماعيلي من طريق العباس بن الوليد النرسي أحد شيوخ البخاري عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ ” لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ” وتابعه على ذلك زياد بن أيوب أحد الإثبات أخرجه الدارقطني , ولأحمد من طريق عبد الله بن سوادة القشيري عن رجل عن أبيه مرفوعا ” لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن ” وقد أخرج ابن خزيمة عن محمد بن الوليد القرشي عن سفيان حديث الباب بلفظ ” لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب “……. واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناء على أن الركعة الواحدة تسمى صلاة لو تجردت ,…. ودليل الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم ” وافعل ذلك في صلاتك كلها ” بعد أن أمره بالقراءة , وفي رواية لأحمد وابن حبان ” ثم افعل ذلك في كل ركعة ” ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري له عقب حديث عبادة ” واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم سواء أسر الإمام أم جهر , لأن صلاته صلاة حقيقة فتنتفي عند انتفاء القراءة….. واستدل من أسقطها عن المأموم مطلقا كالحنفية بحديث ” من صلى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة ” لكنه حديث ضعيف عند الحفاظ , وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني وغيره , واستدل من أسقطها عنه في الجهرية كالمالكية بحديث ” وإذا قرأ فأنصتوا ” وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري , ولا دلالة فيه لإمكان الجمع بين الأمرين : فينصت فيما عدا الفاتحة , أو ينصت إذا قرأ الإمام ويقرأ إذا سكت….. وقد ثبت الإذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد , وذلك فيما أخرجه البخاري في ” جزء القراءة ” والترمذي وابن حبان وغيرهما من رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة ” أن النبي صلى الله عليه وسلم ثقلت عليه القراءة في الفجر , فلما فرغ قال : لعلكم تقرءون خلف إمامكم ؟ قلنا : نعم . قال : فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب , فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ” ,……. وروى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال : لابد من أم القرآن , ولكن من مضى كان الإمام يسكت ساعة قدر ما يقرأ المأموم بأم القرآن .أ.هـ (فتح البارى ..ك..الأذآن..باب القراءة للإمام والمأموم….)

قال الشوكانى فى نيل الأوطار باب وجوب قراءة الفاتحة…:
والحديث يدل على تعين فاتحة الكتاب في الصلاة وأنه لا يجزئ غيرها وإليه ذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم

* فائدة:
بالنسبة لمن لايستطيع الفاتحة فعليه أن يسبح ويذكر في موضع قراءة الفاتحة من الصلاة حتى يتعلمها… كما في حديث ابن أبي أوفى عند أبي داود والنسائي وأحمد وابن الجارود وابن حبان والحاكم والدارقطني: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً فعلمني ما يجزيني في صلاتي فقال: قل سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللَّه)…وهذا بسبب عدم الإستطاعة لامن جهة عدم وجوب الفاتحة فتنبه…قال الشوكانى فى النيل: ولا شك أن غير المستطيع لا يكلف لأن الاستطاعة شرط في التكليف فالعدول ههنا إلى البدل عنه تعذر المبدل غير قادح في فرضيته أو شرطيته….أ.هـ
*ومن أهل العلم من قال بأن قرأة الفاتحة غير متعينة وممكن أى قدر من القرأن وبناءً عليه فليست قراءة الفاتحة بشرط ولا واجب وأجابهم الشوكانى فى نيل الأوطار بقوله:
ولايقال فى حديث المسئ صلاته:(ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن)… لأنه قد ورد في حديث المسيء أيضاً عند أحمد وأبي داود وابن حبان بلفظ: (ثم اقرأ بأم القرآن) فقوله ما تيسر مجمل مبين أو مطلق مقيد أو مبهم مفسر بذلك لأن الفاتحة كانت هي المتيسرة لحفظ المسلمين لها وقد قيل إن المراد بما تيسر فيما زاد على الفاتحة جمعاً بين الأدلة.أ.هـ

*يجب قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة:
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجب قراءة الفاتحة ولو مرة فى الصلاة ولايلزم قراءتها فى كل ركعة …. قال الشوكانى: وقد استدل بهذا الحديث…(حديث عبادة) ..على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناء على أن الركعة تسمى صلاة وفيه نظر لأن قراءتها في ركعة واحدة تقتضي حصول مسمى القراءة في تلك الصلاة والأصل عدم وجوب الزيادة على المرة الواحدة وإطلاق اسم الكل على البعض مجاز لا يصار إليه إلا لموجب فليس في الحديث إلا أن الواجب في الصلاة التي هي اسم لجميع الركعات قراءة الفاتحة مرة واحدة فإن دل دليل خارجي على وجوبها في كل ركعة وجب المصير إليه وقد نسب القول بوجوب الفاتحة في كل ركعة النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح إلى الجمهور.
ورواه ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن علي وجابر وعن ابن عون والأوزاعي وأبي ثور قال: وإليه ذهب أحمد وداود وبه قال مالك إلا في الناسي.
قال المهدي في البحر: إن الظاهر مع من ذهب إلى إيجابها في كل ركعة واستدلوا أيضاً على ذلك بما وقع عند الجماعة واللفظ للبخاري من قوله صلى اللَّه عليه وسلم للمسيء: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) بعد أن أمره بالقراءة وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته أنه قال في آخره: (ثم افعل ذلك في كل ركعة)…. وهذا الدليل إذا ضممته إلى ما أسلفنا لك من حمل قوله في حديث المسيء (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) على الفاتحة لما تقدم انتهض ذلك للاستدلال به على وجوب الفاتحة في كل ركعة وكان قرينة لحمل قوله في حديث المسيء: (ثم كذلك في كل صلاتك فافعل) على المجاز وهو الركعة وكذلك حمل: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) عليه.أ.هـ (نيل الأوطار: باب وجوب قراءة الفاتحة).
*ومن المعلوم أن المأموم يجب عليه أن ينصت خلف الإمام إذا قرأ لعموم قول الله تعالى :” وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون”( الأعراف 204)… قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة.(ذكره القرطبى).
وقد تأكد هذا المعنى فى السنة أيضا إلا أن السنة بينت وجوب الإنصات وعدم القراءة مع الإمام لمخالفة ذلك للإنصات الا فى الفاتحة أم الكتاب….ففى الحديث عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ قُلْنَا نَعَمْ هَذًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا”.[د..ك..الصلاة]… واحمد فى المسند بلفظ:” فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنِّي لَأَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إِمَامِكُمْ قَالُوا نَعَمْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَفْعَلُ هَذَا قَالَ فَلَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا”… قال الحافظ: إسناده حسن. ورواه ابن حبان من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس وزعم أن الطريقتين محفوظتان وخالفه البيهقي فقال: إن طريق أبي قلابة عن أنس ليست بمحفوظة ومحمد بن إسحاق قد صرح بالتحديث فذهبت مظنة تدليسه وتابعه من تقدم….والترمذي. وفي لفظ: (فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن) رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وقال: كلهم ثقات….والحديث أخرجه أيضاً أحمد والبخاري في جزء القراءة وصححه وابن حبان والحاكم والبيهقي من طريق ابن إسحاق قال: حدثني مكحول عن محمود بن ربيعة عن عبادة وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول.
قال الشوكانى فى النيل: والحديث استدل به من قال بوجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام وهو الحق وقد تقدم بيان ذلك وظاهر الحديث الإذن بقراءة الفاتحة جهراً لأنه استثنى من النهي عن الجهر خلفه…..وقال: قد عرفت مما سلف وجوب الفاتحة على كل إمام ومأموم في كل ركعة وعرفناك أن تلك الأدلة صالحة للاحتجاج بها على أن قراءة الفاتحة من شروط صحة الصلاة فمن زعم أنها تصح صلاة من الصلوات أو ركعة من الركعات بدون فاتحة الكتاب فهو محتاج إلى إقامة برهان يخصص تلك الأدلة.أ.هـ

*المسألة الثانية:
هل من أدرك الركوع يعتد بتلك الركعة أم لا؟؟:
قال حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار شرح الموطإ : قال جمهور الفقهاء من أدرك الإمام راكعا فكبر وركع وأمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك الركعة , ومن لم يدرك ذلك فقد فاتته الركعة , ومن فاتته الركعة فقد فاتته السجدة أي لا يعتد بها . هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق , وروى ذلك عن علي وابن مسعود وزيد وابن عمر , وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في التمهيد . انتهى كلامه .
وقد عرفنا فى المسألة السابقة وجوب الفاتحة على كل إمام ومأموم في كل ركعة وعرفنا أن تلك الأدلة السابقة صالحة للاحتجاج بها على أن قراءة الفاتحة من شروط صحة الصلاة…
قال الشوكانى فى النيل: باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته إذا سمع إمامه:
ومن ههنا يتبين لك ضعف ما ذهب إليه الجمهور أن من أدرك الإمام راكعاً دخل معه واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئاً من القراءة واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة: (من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة في صلاته يوم الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى) رواه الدارقطني من طريق ياسين بن معاذ وهو متروك.
وأخرجه الدارقطني بلفظ: (إذا أدرك أحدكم الركعتين يوم الجمعة فقد أدرك وإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى) ولكنه رواه من طريق سليمان بن داود الحراني ومن طريق صالح بن أبي الأخضر وسليمان متروك وصالح ضعيف.أ.هـ

واستدلوا أيضا بحديث أبي هريرة: (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة). أخرجاه.
وبحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ”.
[د…ك…الصلاة…وفى صحيح الجامع برقم:468].
وقد ظن البعض أن لفظ الركعة هنا هو الركوع كما قال به بعضهم ونقله الشوكانى ولكنه أنكره فى موضع أخر حيث قال فى باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته إذا سمع إمامه…. لأن الركعة حقيقة لجميعها وإطلاقها على الركوع وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة كما وقع عند مسلم من حديث البراء بلفظ: (فوجدت قيامه فركعته فاعتداله فسجدته) فإن وقوع الركعة في مقابلة القيام والاعتدال والسجود قرينة تدل على أن المراد بها الركوع.أ.هـ..(وهذا يعنى أن الركعة هنا هى الصلاة ولاتدل على الركوع الا بقرينة).
*قال في فتح الباري في معنى حديث أبى هريرة الأول:
وفي الحديث أن من دخل في الصلاة فصلى ركعة وخرج الوقت كان مدركا لجميعها , وتكون كلها أداء , وهو الصحيح . انتهى……وقال التيمي : معناه من أدرك مع الإمام ركعة فقد أدرك فضل الجماعة . وقيل : المراد بالصلاة الجمعة , قال الطيبي : ومذهب مالك أنه لا يحصل فضيلة الجماعة إلا بإدراك ركعة تامة , سواء في الجمعة وغيرها . كذا في المرقاة .
و قوله : ( فقد أدرك الصلاة ) فيه إضمار تقديره : فقد أدرك وقت الصلاة , أو حكم الصلاة , أو نحو ذلك , ويلزمه إتمام بقيتها.أ.هـ (فتح البارى…ك…مواقيت الصلاة باب من أدرك من الصلاة ركعة).
وقد جاء الكلام بين فى عون المعبود شرح سنن أبى داود حيث قال:
فى رواية مسلم من حديث البراء بلفظ: (فوجدت قيامه فركعته فاعتداله فسجدته) فإن وقوع الركعة في مقابلة القيام والاعتدال والسجود قرينة تدل على أن المراد بها الركوع , وهاهنا (فى حديث أبى هريرة) ليست قرينة تصرف عن حقيقة الركعة , فليس فيه دليل على أن مدرك الإمام راكعا مدرك لتلك الركعة . واعلم أنه ذهب الجمهور من الأئمة إلى أن من أدرك الإمام راكعا دخل معه واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئا من القراءة , وذهب جماعة إلى أن من أدرك الإمام راكعا لم تحسب له تلك الركعة وهو قول أبي هريرة وحكاه البخاري في القراءة خلف الإمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام واختاره ابن خزيمة والضبعي وغيرهما من محدثي الشافعية وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين ورجحه المقبلي قال : وقد بحثت هذه المسألة وأحطتها في جميع بحثي فقها وحديثا فلم أحصل منها على غير ما ذكرت يعني من عدم الاعتداد بإدراك الركوع فقط .
وقال أيضا: واستدل الجمهور(القائلون بالإعتداد بالركعة بإدراك الركوع) بحديث أبي بكرة حيث صلى خلف الصف مخافة أن تفوته الركعة فقال صلى الله عليه وسلم ” زادك الله حرصا ولا تعد ” ولم يأمر بإعادة الركعة . قال الشوكاني في النيل : ليس فيه ما يدل على ما ذهبوا إليه , لأنه كما لم يأمره بالإعادة لم ينقل إلينا أنه اعتد بها , والدعاء له بالحرص لا يستلزم الاعتداد بها لأن الكون مع الإمام مأمور به سواء كان الشيء الذي يدركه المؤتم معتدا به أم لا كما في الحديث ” إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ” على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أبا بكرة عن العود إلى ذلك , والاحتجاج بشيء قد نهي عنه لا يصح . (عون المعبود …ك…الصلاة باب فى الرجل يدرك الإمام كيف يصنع).

*واستدل القائلون بعدم الإعتداد بالركعة التى لم يقرأ فيها الفاتحة بأدلة كثيرة:
منها ما سبق مما يدل على شرطية قراءة الفاتحة فى كل ركعة للإمام والمأموم… واستدلوا أيضا بحديث : ” ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ” أخرجه الشيخان بأنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإتمام ما فاته , ومن أدرك الإمام راكعا فإن القيام والقراءة فيه وهما فرضان فلا بد له من إتمامهما , وبما روى عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : ” من أدرك الإمام في الركوع فليركع معه وليُعد الركعة ” وقد رواه البخاري في القراءة خلف الإمام من حديث أبي هريرة أنه قال ” إن أدركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة…. قال الحافظ : وهذا هو المعروف عن أبي هريرة موقوفا…. ورجح الإمام أو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى مذهب من يقول بعدم الاعتداد بإدراك الركوع فقط , وحقق هذه المسألة في كتابه جزء القراءة ما ملخصه قال البخاري : وتواتر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا صلاة إلا بقراءة أم القرآن “….. وأما حديث ” من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ” فهذا خبر لم يثبت عند أهل العلم من أهل الحجاز وأهل العراق لإرساله وانقطاعه رواه ابن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروى الحسن بن صالح عن جابر عن أبي الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم , ولا يدري أسمع جابر من أبي الزبير . وذكر عن عبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو ” صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر فقرأ رجل خلفه , فقال : لا يقرأن أحدكم والإمام يقرأ إلا بأم القرآن ” فلو ثبت الخبران كلاهما لكان هذا مستثنى من الأول لقوله : لا يقرأن إلا بأم الكتاب . وقال أبو هريرة وعائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ” …….وقال أبو هريرة : لا يجزيه حتى يدرك الإمام . وقال أبو سعيد وعائشة ” لا يركع أحدكم حتى يقرأ بأم القرآن “…… قال البخاري : وقال عدة من أهل العلم إن كل مأموم يقضي فرض نفسه , والقيام والقراءة والركوع والسجود عندهم فرض فلا يسقط الركوع والسجود عن المأموم , وكذلك القراءة فرض فلا يزول فرض عن أحد إلا بكتاب أو سنة . وقال أبو قتادة وأنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” إذا أتيتم الصلاة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ” فمن فاته فرض القراءة والقيام فعليه إتمامه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ……وعن أبي هريرة قال ” لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام قائما ” وفي لفظ له قال ” إذا أدركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة , وفي لفظه له ” لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام قائما قبل أن يركع ” وأخرج من طريق عبد الرحمن بن هرمز قال قال أبو سعيد ” لا يركع أحدكم حتى يقرأ بأم القرآن ” قال البخاري : وكانت عائشة تقول ذلك …… والقيام فرض في الكتاب والسنة . قال الله تعالى { وقوموا لله قانتين } وقال { إذا قمتم إلى الصلاة } وقال النبي صلى الله عليه وسلم ” صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ” ….. ثم قال البخاري : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ” ولم يقل من أدرك الركوع أو السجود أو التشهد . ومما يدل عليه قول ابن عباس : ” فرض الله على لسان نبيكم صلاة الخوف ركعة ” وقال ابن عباس : ” صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الخوف بهؤلاء ركعة , وبهؤلاء ركعة , فالذي يدرك الركوع والسجود من صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب هي خداج , ولم يخص صلاة دون صلاة ” . والذي يعتمد على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أن لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب , وما فسر أبو هريرة وأبو سعيد : ” لا يركعن أحدكم حتى يقرأ فاتحة الكتاب ” . انتهى كلامه ملخصا محررا ملتقطا من مواضع شتى من كتابه (جزء الفراءة خلف الامام للبخارى)…. فهذا محمد بن إسماعيل البخاري أحد المجتهدين وواحد من أركان الدين قد ذهب إلى أن مدركا للركوع لا يكون مدركا للركعة حتى يقرأ فاتحة الكتاب , فمن دخل مع الإمام في الركوع فله أن يقضي تلك الركعة بعد سلام الإمام بل حكى البخاري هذا المذهب عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام . وقال الحافظ في الفتح تحت حديث أبي هريرة : ” فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ” واستدل به على أن من أدرك الإمام راكعا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته الوقوف والقراءة فيه , وهو قول أبي هريرة , بل حكاه البخاري في القراءة خلف الإمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام , واختاره ابن خزيمة والضبعي وغيرهما من محدثي الشافعية , وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين انتهى .
وقال ابن حزم في المحلى : لا بد في الاعتداد بالركعة من إدراك القيام والقراءة بحديث : ” ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا , ولا فرق بين فوت الركعة والركن والذكر المفروض , لأن الكل فرض لا تتم الصلاة إلا به . قال فهو مأمور بقضاء ما سبقه الإمام وإتمامه فلا يجوز تخصيص شيء من ذلك من ذلك بغير نص آخر ولا سبيل إلى وجوده . قال : وقدم أقدم بعضهم على دعوى الإجماع على ذلك وهو كاذب في ذلك , لأنه قد روى عن أبي هريرة أنه لا يعتد بالركعة حتى يقرأ أم القرآن .

* فائدة (هل يجوز أن يدخل المأموم والإمام راكع ويقراء الفاتحة ثم يركع قبل أن يرفع الإمام؟):
قال ابن حزم فإن قيل إنه يكبر قائما ثم يركع فقد صار مدركا للوقعة , قلنا وهذه معصية أخرى , وما أمر الله تعالى قط ولا رسوله أن يدخل في الصلاة من غير الحال التي يجد الإمام عليها , وأيضا لا يجزئ قضاء شيء يسبق به من الصلاة إلا يعد سلام الإمام لا قبل ذلك….. وقال أيضا في الجواب عن استدلالهم بحديث ” من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ” حجة عليهم , لأنه مع ذلك لا يسقط عنه قضاء ما لم يدرك من الصلاة انتهى .

*وقال الشوكانى في الفتح الرباني في فتاوي الشوكاني:
قوله صلى الله عليه وسلم ” من أدرك الإمام على حالة فليصنع كما يصنع الإمام” , يدل على لزوم الكون مع الإمام على الحالة التي أدركه عليها وأنه يصنع مثل صنيعه , ومعلوم أنه لا يحصل الوفاء بذلك إلا إذا ركع بركوعه واعتدل باعتداله , فإذا أخذ يقرأ الفاتحة فقد أدرك الإمام على حالة ولم يصنع كما صنع إمامه , فخالف الأمر الذي يجب امتثاله وتحرم مخالفته . (عون المعبود …ك…الصلاة باب فى الرجل يدرك الإمام كيف يصنع)…..هذا والحمد لله رب العالمين.

جمعه ورتبه وكتبه الفقير
د/ السيد العربى بن كمال

دعوى تعارض الأحاديث بشأن قراءة الفاتحة للمأموم(*)


دعوى تعارض الأحاديث بشأن قراءة الفاتحة للمأموم(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أن هناك تعارضا صريحا بين الأحاديث الواردة في بيان وجوب قراءة الفاتحة، والواردة في عدم الوجوب؛ فقد أوجبت بعض الأحاديث قراءتها، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وقوله: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج».

وجوز بعضها الآخر عدم القراءة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام فقراءته له قراءة»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن…» الحديث، حيث جعل الأمر على الإطلاق؛ ليقرأ المرء ما يشاء من القرآن.

كما يزعمون أن هناك تعارضا بين الأحاديث التي تتعلق بقراءة آية الفاتحة “مالك”، “ملك”؛ فقد جاءت أحاديث تقر قراءة “مالك” بالمد؛ منها حديث أم سلمة حينما سئلت عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: «كان يقطع قراءته آية آية: “…. )مالك يوم الدين (4)(» (الفاتحة)، في حين جاءت أحاديث أخرى تقر قراءة “ملك” بدون المد؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم شكوتم جدب دياركم… وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: “الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين…» الحديث.

وقد أورد المغرضون كل ذلك متسائلين: كيف يقع كل هذا الاضطراب والتعارض والتناقض في أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في باب واحد؟! رامين من وراء ذلك إلى إنكار جميع الأحاديث التي جاءت في مسألة قراءة الفاتحة للمأموم.

وجوه إبطال الشبهة:

1) ليس ثمة تعارض بين الأحاديث الصحيحة في مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة؛ وذلك لأن بعضها قد أوجب القراءة دون تخصيص للمأموم، وهي محمولة كما قال – المحققون من أهل العلم – على الصلاة السرية، وعلى سكتات الإمام في الصلاة الجهرية، وكذا البعيد الذي لا يسمع قراءة الإمام، وأما بعضها الآخر فقد خص بصلاة المأموم خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وهذا يقتضي منه وجوب الاستماع والإنصات للإمام إن كان يسمعه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع؛ فإن قراءة الإمام قراءة له إلا في حالة سكتات الإمام.

2) إن حديث «… اقرأ ما تيسر من القرآن…» حديث صحيح، وهو بذلك لا يعارض بحال الأحاديث الموجبة لقراءة الفاتحة في الصلاة؛ لأنه محمول – كما قال العلماء – على الفاتحة لمن كان معه قرآن، فإن عجز عن تعلمها، وكان معه شيء من القرآن قرأ ما تيسر منه، وإلا انتقل إلى الذكر، ويحتمل أن يكون المراد هو ما بعد الفاتحة، وقد أيدت ذلك روايات أخرى صحيحة للحديث.

3) إنه من رحمة الله وتوسعته على عباده أن أنزل القرآن بعدة قراءات؛ فقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قراءتا “مالك” و”ملك”؛ فلا مسوغ فيه للقول بتعارض الأحاديث الصحيحة التي أقرت قراءة مع التي أقرت الأخرى، لا سيما وأن المراد بهاتين القراءتين هو الله -عز وجل؛فهو مالك يوم الدين وملكه.

التفصيل:

أولا. لا تعارض بين الأحاديث التي أوجبت قراءة الفاتحة للمأموم، وبين التي جوزت عدم القراءة، فللوجوب مواضع، وللجواز مواضع أخرى:

مما لا شك فيه أن حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»[i][1] حديث صحيح، متفق عليه عند الشيخين – البخاري ومسلم، كما أن حديث: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج. يقولها ثلاثا»[ii][2] حديث صحيح أيضا، رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقد رواه غيره من الأئمة بأسانيد قوية صحيحة، وهذان الحديثان يؤكدان وجوب قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة.

ومما هو جدير بالذكر أيضا أن حديث:«من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة»[iii][3] هو حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة، منهم: جابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأبو هريرة، وابن عباس، وغيرهم، من طرق مختلفة كلها معلولة إلا طريق عبد الله بن شداد عن جابر[iv][4]، وقد توهم البعض أن هذا الحديث يدل دلالة واضحة على عدم وجوب قراءة الفاتحة للمأموم مطلقا؛ وهذا الذي دفعهم إلى القول بتعارضه مع أحاديث الإيجاب، وإذا تأملنا أقوال العلماء في هذه الأحاديث، تبين أنه لا تعارض بينها على الإطلاق.

فالقول الذي عليه جمهور العلماء أن المأموم يقرأ الفاتحة في الصلاة السرية دون الجهرية، وفي حال سكتات الإمام في الصلاة الجهرية، وكذا البعيد الذي لا يسمع قراءة الإمام.

وقد ذهب إلى ذلك الإمام أحمد[v][5]، حينما صرح بأن الفاتحة تجب على المأموم في الصلاة السرية دون الجهرية، واستدل على ذلك بالجمع بين حديث عبادة بن الصامت «لا صلاة لمن لم يقرأ…»، وحديث جابر «من كان له إمام…»، فحمل الحديث الأول على الصلاة السرية، والحديث الثاني على الصلاة الجهرية.

وقد استدل على ذلك أيضا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة جهر فيها بالقراءة، ثم أقبل على الناس بعدما سلم، فقال: “هل قرأ منكم أحد معي آنفا؟”، قالوا: نعم يارسول الله، قال: “مالي أنازع القرآن؟”، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما جهر من القراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم»[vi][6].

كما ذهب الإمام أحمد في رواية أخرى له إلى أن الفاتحة لا تجب على المأموم مطلقا، ولكن يستحب له أن يقرأ بها في سكتات الإمام إن سكت، أو في الصلاة السرية[vii][7].

قال الزركشي: “وهو المنصوص، المعروف عند الأصحاب”[viii][8].

وقال في “الإنصاف”: “هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، نص عليه، وقطع به كثير منهم”[ix][9].

وقد استدل الإمام أحمد على قوله السابق بقوله عز وجل: )وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)( (الأعراف).

وقال: “أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة”[x][10].

وقال ابن قدامة بعدما ذكر حديث أبي هريرة: «مالي أنازع القرآن». قال: “ولأنه إجماع، قال أحمد: ما سمعنا أحدا من أهل الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم يقرأ، وقال هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر، ما قالوا في رجل صلى خلف الإمام، وقرأ إمامه، ولم يقرأ هو: صلاته باطلة”.

وقال أيضا: “ولأنها قراءة لا تجب على المسبوق، فلا تجب على غيره، كقراءة السورة، يحققه أنها لو وجبت على غير المسبوق لوجبت على المسبوق، كسائر أركان الصلاة، فأما حديث عبادة الصحيح – «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» – فهو محمول على غير المأموم”[xi][11].

وكذلك جاءت أقوال العلماء في وجوب القراءة خلال سكتات الإمام، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: “للإمام سكتتان، فاغتنموا فيها القراءة بفاتحة الكتاب، إذا دخل في الصلاة، وإذا قال: )ولا الضالين (7)( (الفاتحة)[xii][12].

وذكر ابن قدامة ردا على الذين ذهبوا إلى أنه لا يقرأ خلف الإمام في الجهر ولا الإسرار مطلقا، فقال: وبالقياس على حالة الجهر لا يصح؛ لأنه أمر بالإنصات إلى قراءة الإمام، فإذا أسر لم يسمع المأموم شيئا ينصت إليه، ولأن الإسماع لم يقم مقام القراءة، ولم يوجد هاهنا، فإذا ثبت هذا فإنه يقرأ في سكتات الإمام حالة الجهر بالفاتحة، ويقرأ في حال الإسرار بالفاتحة وسورة، كالإمام والمنفرد”[xiii][13].

وبالإضافة إلى ما سبق، فقد جاءت أقوال علماء الأمة تؤكد على أنه إن لم يسمع الإمام في حال الجهر؛ لبعده، قرأ.

وقد ذكر ذلك ابن قدامة في “المغني” فقال: نص عليه الإمام – يعني: أحمد بن حنبل، قيل له: أليس قد قال الله عز وجل: )وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا(؟ قال: هذا إلى أي شيء يستمع؟ وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: فيوم الجمعة؟ قال: إذا لم يسمع قراءة الإمام ونغمته قرأ، فأما إذا سمع فلينصت”[xiv][14].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذكر أقوال العلماء في المسألة: “ومنهم من يأمر بالقراءة في صلاة السر، وفي حال سكتات الإمام في صلاة الجهر، والبعيد الذي لا يسمع الإمام، وأما القريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه؛ إقامة للاستماع مقام التلاوة، وهذا قول الجمهور، كمالك، وأحمد، وغيرهم من فقهاء الأمصار، وفقهاء الآثار، وعليه يدل عمل أكثر الصحابة، وتتفق عليه أكثر الأحاديث”[xv][15].

وقد رجح ابن تيمية هذا القول في موضع آخر، فقال: “وقول الجمهور هو الصحيح؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- قال: )وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)(، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا…»إلخ الحديث[xvi][16]، وذكر مسلم أنه ثابت، فقد أمر الله ورسوله بالإنصات للإمام إذا قرأ، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك من جملة الائتمام به، فمن لم ينصت له لم يكن قد ائتم به، ومعلوم أن الإمام يجهر لأجل المأموم، ولهذا يؤمن المأموم على دعائه، فإذا لم يستمع لقراءته ضاع جهره، ومصلحة متابعة الإمام مقدمة على مصلحة ما يؤمر به المنفرد، ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في وتر من صلاته فعل كما يفعل، فيتشهد عقيب الوتر، ويسجد بعد التكبير إذا وجده ساجدا، كل ذلك لأجل المتابعة، فكيف لا يستمع لقراءته مع أنه بالاستماع يحصل له مصلحة القراءة؛ فإن المستمع له مثل أجر القارئ، ومما يبين هذا اتفاقهم كلهم على أنه لا يقرأ معه فيما زاد على الفاتحة إذا جهر، فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له لكانت قراءته لنفسه أفضل من استماعه للإمام، وإذا كان يحصل له بالإنصات أجر القارئ لم يحتج إلى قراءته، فلا يكون فيها منفعة، بل فيها مضرة شغلته عن الاستماع المأمور به”[xvii][17].

وقال أيضا: وقد ثبت بالكتاب والسنة وبالإجماع أن إنصات المأموم لقراءة إمامه يتضمن معنى القراءة معه وزيادة؛ فإن استماعه فيما زاد على الفاتحة أولى به من القراءة باتفاقهم، فلو لم يكن المأموم المستمع لقراءة إمامه أفضل من القارئ لكان قراءته أفضل له؛ ولأنه قد ثبت الأمر بالإنصات لقراءة القرآن، ولا يمكنه الجمع بين الإنصات والقراءة، ولولا أن الإنصات يحصل به مقصود القراءة وزيادة، لم يأمر الله بترك الأفضل لأجل المفضول[xviii][18].

ويجيب ابن تيمية عن أدلة القائلين بوجوب قراءة الفاتحة، فيقول: وأما قوله: «أفي كل صلاة قراءة؟»[xix][19] وقوله: «لا صلاة إلا بأم القرآن» [xx][20]، فصلاة المأموم المستمع لقراءة الإمام فيها قراءة، بل الأكثرون يقولون: الإمام ضامن لصلاته، فصلاته في ضمن صلاة الإمام، ففيها القراءة… فإن المأموم مأمور باستماع ما زاد على الفاتحة، وليست قراءة واجبة، فكيف لا يؤمر بالاستماع لقراءة الإمام الفاتحة، وهي الفرض؟! وكيف يؤمر باستماع التطوع دون استماع الفرض؟! وإذا كان الاستماع للقراءة الزائدة على الفاتحة واجبا بالكتاب والسنة والإجماع، فالاستماع لقراءة الفاتحة أوجب[xxi][21].

ويجيب كذلك عن حديث عبادة بن الصامت وغيره، قال: «صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني لأراكم تقرؤون وراء إمامكم، قال: قلنا: أجل والله يارسول الله هذا، قال: فلا تفعلوا إلا بأم الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها»[xxii][22] – فيقول:

“وهذا استثناء من النهي لهم عن القراءة خلفه، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان له سكتتان، كما روى ذلك سمرة وأبي بن كعب، كما ثبت سكوته بين التكبير والقراءة بحديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين، والدعاء الذي روى أبو هريرة في هذا السكوت يمكن فيه قراءة الفاتحة، فكيف إذا قرأ بعضها في سكتة، وبعضها في سكتة أخرى؟! فحينئذ لا يكون في قوله: “إذا كنتم ورائي فلا تقرءوا إلا بأم القرآن” دليل على أنه يقرأ بها في حال الجهر.

فإن هذا استثناء من النهي، فلا يفيد إلا الإذن المطلق، بمعنى أنهم ليسوا منهيين عن القراءة بها؛ لأنه يمكن قراءتها في حال سكتاته، يؤيد هذا أن جمهور المنازعين يسلمون أنه في صلاة السر يقرأ بالفاتحة وغيرها، ويسلمون أنه إذا أمكن أن يقرأ بما زاد على الفاتحة في سكتات الإمام قرأ، وأن البعيد الذي لا يسمع يقرأ بالفاتحة وبما زاد، فحينئذ يكون هذا النهي خاصا فيمن صلى خلفه في صلاة الجهر، واستثناء قراءة الفاتحة لإمكان قراءتها في سكتاته… ففي هذا الحديث بيان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعلم: هل يقرءون وراءه بشيء، أم لا؟ ومعلوم أنه لو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان قد أمرهم بذلك، وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو بين ذلك لهم لفعله عامتهم، ولم يكن يفعله الواحد أو الاثنان منهم، ولم يكن يحتاج إلى استفهامه، فهذا دليل على أنه لم يوجب عليهم قراءة خلفه حال الجهر، ثم إنه لما علم أنهم يقرءون نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب، وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر، سواء كان بالفاتحة أو غيرها، فالعلة متناولة للأمرين، فإن ما يوجب ثقل القراءة والتباسها على الإمام منهي عنه… ومعلوم أن مثل هذا يكون مكروها، ثم إذا فرض أن جميع المأمومين يقرءون خلفه فنفس جهره لا لمن يستمع، فلا يكون فيه فائدة لقوله «إذا أمن فأمنوا» ويكونون قد أمنوا على قرآن لم يستمعوه، ولا استمعه أحد منهم، إلا أن يقال: إن السكوت يجب على الإمام بقدر ما يقرءون، وهم لا يوجبون السكوت الذي يسع قدر القراءة، وإنما يستحبونه، فعلم أن استحباب السكوت يناسب استحباب القراءة فيه، ولو كانت القراءة على المأموم واجبة لوجب على الإمام أن يسكت بقدرها سكوتا فيه ذكر، أو سكوتا محضا، ولا أعلم أحدا أوجب السكوت لأجل قراءة المأموم”[xxiii][23].

وقد ذكر ابن تيمية بعد ذلك قول الزهري – كما جاء في حديث أبي هريرة: «فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما جهر فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصلوات بالقراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم»[xxiv][24].

ثم قال: وهذا المفسر يقيد المطلق في الحديث الآخر «… فلا تفعلوا إلا بأم الكتاب» يعني في الجهر… فقد تبين بالأدلة السمعية والقياسية القول المعتدل في هذه المسألة[xxv][25].

ويؤكد ما سبق الآثار المروية عن الصحابة في هذا الباب، فعن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام، فقال: «لا قراءة مع الإمام في شيء» [xxvi][26]. ومعلوم أن زيد بن ثابت من أعلم الصحابة بالسنة، وهو عالم أهل المدينة، فلو كانت القراءة بالفاتحة أو غيرها حال الجهر مشروعة لم يقل: «لا قراءة مع الإمام في شيء»، وقوله: «مع الإمام» إنما يتناول من قرأ معه حال الجهر، فأما حال المخافتة فلا هذا يقرأ مع هذا، ولا هذا مع هذا، وكلام زيد هذا ينفي الإيجاب والاستحباب، ويثبت النهي والكراهة.

وروى الإمام مالك في “الموطأ” عن نافع أن عبد الله بن عمر «كان إذا سئل: هل يقرأ أحد خلف الإمام؟ يقول: إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده فليقرأ. قال: وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام»[xxvii][27]، وابن عمر من أعلم الناس بالسنة وأكثرهم اتباعا لها، ولو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان هذا من العلم العام الذي بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيانا عاما، ولو بين ذلك لهم لكانوا يعملون به عملا عاما ولو كان ذلك في الصحابة لم يخف مثل هذا الواجب على ابن عمر حتى يتركه! مع كونه واجبا عام الوجوب – على عامة المصلين – قد بين بيانا عاما، بخلاف ما يكون مستحبا؛ فإن هذا قد يخفى.

وروى البيهقي عن أبي وائل “أن رجلا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال: أنصت للقرآن؛ فإن في الصلاة شغلا، وسيكفيك ذاك الإمام”[xxviii][28]، فقول ابن مسعود هذا يبين أنه إنما نهاه عن القراءة خلف الإمام؛ لأجل الإنصات، والاشتغال به لم ينهه إذا لم يكن مستمعا، كما في صلاة السر، وحال السكتات؛ فإن المأموم حينئذ لا يكون منصتا ولا مشتغلا بشيء، وهذا حجة على من خالف ابن مسعود من الكوفيين، ومبين لما رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم [xxix][29].

ونخلص مما سبق إلى أنه لا تعارض ألبتة بين الأحاديث الصحيحة في مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة؛ وذلك لأن بعضها قد أوجب القراءة مطلقا دون تخصيص للمأموم، وهي محمولة – كما قال العلماء – على الصلاة السرية دون الجهرية، وعلى سكتات الإمام في الصلاة الجهرية، وكذا البعيد الذي لا يسمع قراءة الإمام، وأما بعضها الآخر فقد خص بصلاة المأموم خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وهذا يقتضي منه وجوب الاستماع للإمام والإنصات إليه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع؛ لذا فقراءته تعد قراءة للمأموم، إلا في حال سكتات الإمام، أو من كان بعيدا لم يسمعه.

ثانيا. المراد من قوله صلى الله عليه وسلم«اقرأ ما تيسر معك من القرآن» هو الفاتحة نفسها؛ إذ هي أيسر آي القرآن لحفظ المسلمين لها، ويصح أنه أراد ما زاد على الفاتحة بعدها:

لقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لخلال بن رافع المسيء صلاته:«إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن…» الحديث[xxx][30].

وجدير بالذكر أن هذا الحديث متفق على صحته؛ فقد رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ورواه أيضا أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه بأسانيد قوية صحيحة.

 ومن ثم، فهذا الحديث لا يعارض الأحاديث التي جاءت في وجوب قراءة الفاتحة كما توهم بعضهم.

قال ابن بطال: “وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- للذي رده ثلاثا: «اقرأ ما تيسر معك» فهو مجمل، وحديث عبادة مفسر، والمفسر قاض على المجمل، فكأنه قال: اقرأ ما تيسر معك من القرآن؛ أي: اقرأ فاتحة الكتاب التي قد أعلمت أنه لا صلاة إلا بها، فهي ما تيسر من القرآن”[xxxi][31].

وقال النووي: “وأما حديث «اقرأ ما تيسر»فمحمول على الفاتحة؛ فإنها متيسرة، أو على ما زاد على الفاتحة بعدها، أو على من عجز عن الفاتحة”[xxxii][32].

ويؤكد ابن حجر هذا قائلا: “ذكر البخاري حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته… وموضع الحاجة منه هنا قوله: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن»، وكأنه أشار بإيراده عقب حديث عبادة أن الفاتحة إنما تتحتم على من يحسنها، وأن من لا يحسنها يقرأ بما تيسر له، وأن إطلاق القراءة في حديث أبي هريرة مقيد بالفاتحة كما في حديث عبادة…”.

قال الخطابي: “قوله: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» ظاهر الإطلاق التخيير، لكن المراد به فاتحة الكتاب لمن أحسنها؛ بدليل حديث عبادة، وهو كقوله -عز وجل: )فما استيسر من الهدي( (البقرة: ١٩٦)، ثم عينت السنة المراد”[xxxiii][33].

ويضيف ابن حجر بعد ذلك فيقول مؤكدا: ورد في حديث المسيء صلاته تفسير ما تيسر بالفاتحة، كما أخرجه أبو داود من حديث رفاعة بن رافع رفعه: «إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر، قم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ، وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك…» الحديث[xxxiv][34]، ووقع فيه بعض طرقه «فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله…» الحديث[xxxv][35]، فإذا جمع بين ألفاظ الحديث كان تعين الفاتحة هو الأصل لمن معه قرآن، فإن عجز عن تعلمها، وكان معه شيء من القرآن قرأ ما تيسر، وإذ انتقل إلى الذكر، ويـحتمل الجمع أيضا أن يقال: المراد بقوله: «فاقرأ ما تيسر معك من القرآن» أي: بعد الفاتحة، ويؤيده حديث أبي سعيد عند أبي داود بسند قوي «أمرنا الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر»[xxxvi][36] [xxxvii][37].

ومن ثم، فإنه بالنظر إلى جميع روايات حديث المسيء صلاته، نجد أن هذا الشخص – المسيء صلاته – كما بدا لم يكن يحسن الصلاة، فجاءت روايات تطلب منه قراءة ما تيسر من القرآن، كرواية مسلم، وجاءت روايات تطلب منه ذكر الله سبحانه إن لم يكن يحسن شيئا من القرآن، كما في رواية الترمذي وأبي داود وغيرهما.

وعليه، فإن هذا الحديث – أي حديث المسيء صلاته – قد جاء يعالج موضوعا خاصا؛ لذا فيقصر عليه ولا يعمم إلا على حالة من لا يحسن قراءة الفاتحة، أومن لا يحسن قراءة شيء من القرآن، وذلك فلا حجة فيه لمن أراد الاستدلال على عدم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة؛ لأنه استدلال في غير محله، وظاهر الخطأ، فلا ينبغي العدول عن القول بوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة[xxxviii][38].

ويؤكد ما ذهبنا إليه قول الإمام النووي بوجوب قراءة الفاتحة، “وأنها متعينة لا يجزئ غيرها إلا لعاجز عنها، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم”.

ونخلص مما سبق إلى أن حديث «اقرأ ما تيسر من القرآن» حديث صحيح، وهو بذلك لا يعارض الأحاديث التي جاءت في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة؛ وذلك لأنه محمول – كما قال المحققون من أهل العلم – على الفاتحة لمن معه قرآن، وهو الأصل، فإن عجز عن تعلمها، وكان معه شيء من القرآن قرأ ما تيسر، وإلا انتقل إلى الذكر، ويحتمل أن يكون المراد هو ما بعد الفاتحة، وقد أيدت ذلك روايات أخرى صحيحة للحديث.

ثالثا. لا تعارض بين الأحاديث التي أقرت قراءة “مالك” والتي أقرت قراءة “ملك”، فكلتا القراءتين صحت عن النبي -صلى الله عليه وسلم:

لقد صحت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في إقرار قراءتي “مالك”، “ملك”، ومما صح في القراءة الأولى (مالك)، ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:«من صلى صلاة… وإذا قال (مالك يوم الدين) قال: مجدني عبدي…»[xxxix][39].

وعن عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة قالت: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقطع قراءته آية آية (الحمد لله رب العلمين)، ثم يقف (الرحمن الرحيم)، ثم يقف، قال ابن أبي مليكة: وكانت أم سلمة تقرأها (مالك يوم الدين)»[xl][40].

ومما صح في القراءة الثانية (ملك) ما رواه أبو داود في سننه من حديث عائشة – رضي الله عنها، قالت: «شكا الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى… ثم قال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين»[xli][41].

ولا يعني هذا أن هناك تعارضا بين تلك الأحاديث، فقد نزل القرآن على سبعة أحرف، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤا ما تيسر منه»[xlii][42]، وقد روى هذا الحديث جمع كبير من الصحابة، فقد روى الحافظ أبو يعلى: “أن عثمان -رضي الله عنه- قال يوما، وهو على المنبر: أذكر الله رجلا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شاف كاف إلا قام، فقاموا حتى لم يـحصوا فشهدوا بذلك، ثم قال عثمان: وأنا أشهد معكم؛ لأني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك”[xliii][43]، وعن عبيد الله بن عبد الله أن ابن عباس – رضي الله عنهما – حدثه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»[xliv][44].

فلم يختلف العلماء في ثبوت القراءتين، أو صحة الأحاديث التي جاءت بهما، فالقراءتان ثابتتان، والأحاديث صحيحة، وهذا ما اتفق عليه.

قال ابن كثير في تفسيره: “قرأ بعض القراء (ملك يوم الدين)، وقرأ آخرون (مالك)، وكلاهما صحيح متواتر في السبع”[xlv][45].

ويبين ابن بطال المراد من هذا موجزا، فيقول: “المراد بهاتين القراءتين هو الله عز وجل؛وذلك أنه مالك يوم الدين وملكه، فقد اجتمع له الوصفان جميعا، فأخبر بذلك في القراءتين”[xlvi][46].

ويؤكد ابن عثيمين على هذا المعنى، فيقول: “وإذا جمعت بين القراءتين ظهر معنى بديع، وهو أن الملك أبلغ من المالك في السلطة والسيطرة، لكن الملك أحيانا يكون ملكا بالاسم لا بالتصرف، وحينئذ يكون ملكا غير مالك، فإذا اجتمع أن الله تعالى ملك ومالك، تم بذلك الأمر: الملك والتدبير”[xlvii][47].

وعليه؛ فيجب على المسلم أن يأخذ بكل قراءة وردت وثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يعلم أنه “ليس للأئمة القراء أدنى اجتهاد أو تحكم في نص القراءة المقبولة، بل إن مهمتهم تنحصر في ضبط الرواية وتوثيق النقل، وكان غاية ما فعله هؤلاء الأئمة أن تخصص كل واحد منهم بنوع من أنواع القراءة التي سمعها عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما نقلوها عنه صلى الله عليه وسلم، وخدمها، وتفرغ لإقرائها وتلقينها، فنسبت إليه لا على سبيل أنه أنشأها وابتكرها، بل على سبيل أنه قرأ بها وأقرأ عليها، وإلا فالمنشأ واحد، وهو المصطفي -صلى الله عليه وسلم- عن الروح الأمين عن رب العالمين”[xlviii][48]؛ فالقراءات وحي لا يجوز عليه التناقض، ولكنها تنوعت لحكم جليلة أوضحها: التيسير على العرب أصحاب الرسالة مختلفي اللهجات، وعليه فلا دليل يستقيم لمن حكم بتعارض الأحاديث في هذا المضمار.

وبهذا يتبين لكل مدع أنه لا تعارض ألبتة بين الأحاديث الصحيحة في إقرار قراءة “مالك”، أو “ملك”.

الخلاصة:

  • لا تعارض ألبتة بين الأحاديث الصحيحة التي جاءت بشأن قراءة الفاتحة للمأموم؛ وذلك لأن بعضها قد جاء مطلقا بوجوب قراءتها دون تخصيص للمأموم، وهي محمولة – كما قال العلماء – على الصلاة السرية، وعلى سكتات الإمام في الصلاة الجهرية، وكذلك البعيد الذي لا يسمع قراءة الإمام، وأما بعضها الآخر فقد جاء في وجوب استماع المأموم وإنصاته للإمام في الصلاة الجهرية إن كان يسمعه؛ فإن قراءة الإمام قراءة له إلا في حالة سكتات الإمام.
  • إن حديث «اقرأ ما تيسر من القرآن» حديث صحيح، وهو بذلك لا يعارض بحال الأحاديث الموجبة لقراءة الفاتحة في الصلاة؛ لأنه محمول – كما قال المحققون من أهل العلم – على الفاتحة لمن معه قرآن، وهو الأصل، فإن عجز عن تعلمها، وكان معه شيء من القرآن قرأ ما تيسر، وإلا انتقل إلى الذكر، ويـحتمل أن يكون المراد هو ما بعد الفاتحة، وقد أيدت ذلك روايات أخرى صحيحة للحديث.
  • لا تعارض ألبتة بين الأحاديث التي جاءت بقراءة “مالك” بالمد، والتي جاءت بقراءة “ملك”؛ لأن كلتا القراءتين واردتان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهما قرأ الصحابة ومن بعدهم، ومن المعلوم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فمن قرأ بأحدها أثيب على قراءته.
  • لا يجوز الترجيح بين القراءات، طالما أنها تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛لأنها وحي من عند الله، ولا مفاضلة بين كلام الله عز وجل.

 

 

 

 

(*) مختلف الحديث عند الإمام أحمد، د. عبد الله بن فوزان بن صالح الفوزان، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1428هـ. لا نسخ في السنة، عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م. رياض الجنة في الرد على أعداء السنة، مقبل بن هادي الوادعي، دار الحرمين، القاهرة، ط4. طرق الحكم على الحديث بالصحة والضعف، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2007م.

[xlix][1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: وجوب قراءة الفاتحة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، (2/ 276)، رقم (756). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، (3/ 962)، رقم (850).

[l][2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، (3/ 964)، رقم (856).

[li][3]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: إذا قرأ الإمام فأنصتوا، (1/ 277)، رقم (850). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (850).

[lii][4]. انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، (2/ 268: 277).

[liii][5]. انظر: طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (1/ 315).

[liv][6]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام، (2/ 196)، رقم (311). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (312).

[lv][7]. مختلف الحديث عند الإمام أحمد، د. عبد الله بن فوزان بن صالح الفوزان، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1428هـ، (1/ 425: 427) بتصرف.

[lvi][8]. شرح الزركشي على مختصر الخرقي، الزركشي، (1/ 601)، نقلا عن: مختلف الحديث عند الإمام أحمد، د. عبد الله بن فوزان بن صالح الفوزان، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1428هـ، (1/ 427).

[lvii][9]. الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، المرداوي، دار هجر، مصر، ط1، 1416هـ، (4/203).

[lviii][10]. مختلف الحديث عند الإمام أحمد، د. عبد الله بن فوزان بن صالح الفوزان، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1428هـ، (1/ 427) بتصرف.

[lix][11]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (2/ 262، 263).

[lx][12]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (2/ 266).

[lxi][13]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (2/ 267).

[lxii][14]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (2/ 267).

[lxiii][15]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (23/ 327).

[lxiv][16]. صحيح، أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: إذا قرأ الإمام فأنصتوا، (1/ 276)، رقم (846). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (36).

[lxv][17]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (22/ 295، 296).

[lxvi][18]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (23/ 290).

[lxvii][19]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، باقي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، رقم (21768). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[lxviii][20]. صحيح: أخرجه البزار في مسنده، مسند عبادة بن الصامت، رقم (2703). وصححه الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان لابن تيمية.

[lxix][21]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (23/ 294، 295) بتصرف يسير.

[lxx][22]. إسناده قوي: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: صفة الصلاة، (5/ 156)، رقم (1848). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان: إسناده قوي.

[lxxi][23]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (23/ 313: 316).

[lxxii][24]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة، (2/ 196)، رقم (311). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (312).

[lxxiii][25]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، ص321، 322.

[lxxiv][26]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: سجود التلاوة، (3/ 1153)، رقم (1275).

[lxxv][27]. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: الصلاة، باب: ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر فيه، ص28، رقم (192).

[lxxvi][28]. أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، كتاب: الحيض، باب: من قال لا يقرأ خلف الإمام على الإطلاق، (2/ 160)، رقم (2726).

[lxxvii][29]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (23/ 323، 324) بتصرف.

[lxxviii][30]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاستئذان، باب: من رد فقال عليك السلام، (11/ 39)، رقم (6251)، صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، (3/ 964، 965)، رقم (860).

[lxxix][31]. شرح صحيح البخاري، ابن بطال، (3/ 457).

[lxxx][32]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (3/ 966).

[lxxxi][33]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (2/ 284).

[lxxxii][34]. حسن: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، (3/ 71)، رقم (854). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (859).

[lxxxiii][35]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وصف الصلاة، (2/ 176: 178)، رقم (301). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (302).

[lxxxiv][36]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشر ح عون المعبود)، كتاب: الصلاة، باب: من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، (3/ 24)، رقم (813). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (818).

[lxxxv][37]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (2/ 284).

[lxxxvi][38]. الجامع لأحكام الصلاة، محمود عبد اللطيف عويضة، دار الوضاح، الأردن، ط3، 2003م، (2/ 211) بتصرف.

[lxxxvii][39]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، (3/ 963)، رقم (853).

[lxxxviii][40]. صحيح لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث أم سلمة رضي الله عنها، (6/ 302)، رقم (26625). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره، رجاله رجال الشيخين.

[lxxxix][41]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: رفع اليدين في الاستسقاء، (4/ 25: 27)، رقم (1170). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (1173).

[xc][42]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، (8/ 639، 640)، رقم (4992).

[xci][43]. أخرجه الهيثمي في بغية الباحث، كتاب: التفسير، باب: تعلم القرآن وتعاهده، (2/ 734)، رقم (727).

[xcii][44]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، (8/ 639)، رقم (4991).

[xciii][45]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، (1/ 24).

[xciv][46]. شرح صحيح البخاري، ابن بطال، (19/ 308).

[xcv][47]. شرح حديث جبريل عليه السلام، ابن عثيمين، (1/ 5).

[xcvi][48]. القراءات المتواترة وأثرها في الرسم القرآني والأحكام الشرعية، د. محمد الحبش، دار الفكر، دمشق، ط1، 1419هـ/ 1999م، ص26.

Ziarah kematian: Tetamu sepatutnya bawa makanan


Ziarah kematian: Tetamu sepatutnya bawa makanan

| December 13, 2015

Mufti Perlis menasihatkan umat Islam mengubah budaya yang menyusahkan keluarga si mati yang terpaksa menyediakan makanan untuk tetamu.

asri,thlil

PETALING JAYA: Keluarga Islam yang baru kehilangan anggota keluarga tidak sepatutnya dibebankan dengan tanggungjawab menyediakan makanan bagi tetamu yang datang menziarah.

Mufti Perlis, Datuk Dr. Mohd Asri Zainul Abidin berkata, begitu juga dengan majlis tahlil di mana keluarga terbabit juga tidak sepatutnya dibebankan untuk menyediakan makanan.

Katanya, sepatutnya tetamu yang membawa bantuan makanan kepada keluarga berkenaan yang sedang dilanda kesedihan kerana baru berhadapan kematian.

“Sepatutnya yang menjadi sunnah, kita membawa bantuan makanan dan selainnya buat keluarga si mati, bukan kita menghabiskan makanan mereka ataupun menyusahkan mereka menyediakan makanan untuk kita,” tulisnya di Facebook.

Asri berkata, perbuatan itu sangat berbeza dengan ajaran Islam seperti yang disebut dalam hadis sahih riwayat Abu Daud, al-Tirmizi yang menyebut, “Apabila datang berita kematian Ja’far bin Abi Talib, Nabi s.a.w. bersabda: Buatlah untuk keluarga Ja’far makanan kerana telah datang perkara yang mengganggu urusan mereka”.

Beliau berkata, amat mendukacitkan apabila berlaku kematian maka masyarakat berkumpul dan memakan harta peninggalan si mati, bukan berfikir tentang masa depan dan kebajikan kaum keluarganya.

Beliau mengulas laporan akhbar Harian Metro berkenaan seorang wanita di Johor Bahru yang baru kematian suami dan terpaksa menggunakan wang untuk majlis tahlil (yang disumbangkan jiran-jiran) bagi membayar sewa rumah.

سنن الترمذي حديث 02646 / ٢٦٤٦


باب فضل طلب العلم
2646 حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة قال أبو عيسى هذا حديث حسن

بَاب فَضْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ
2646 حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ

الشروح
قوله : ( من سلك ) أي دخل أو مشى ( طريقا ) أي حسية أو معنوية ( يلتمس فيه ) أي يطلب فيه والجملة حال أو صفة ( علما ) نكره ليشمل كل نوع من أنواع علوم الدين قليلة أو كثيرة إذا كان بنية القربة والنفع والانتفاع . وفيه استحباب الرحلة في طلب العلم . وقد ذهب موسى إلى الخضر -عليهما الصلاة والسلام- وقال له : هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ورحل جابر بن عبد الله من مسيرة شهر إلى عبد الله بن قيس ، في حديث واحد ( طريقا ) أي موصلا ومنهيا ( إلى الجنة ) مع قطع العقبات الشاقة دونها يوم القيامة .
قوله : ( هذا حديث حسن ) وأخرجه مسلم مطولا .
شسش

صحيح البخاري حديث 05027 / ٥٠٢٧


باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه
4739 حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني علقمة بن مرثد سمعت سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه قال وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج قال وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا

بَاب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ
4739 حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ قَالَ وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ حَتَّى كَانَ الْحَجَّاجُ قَالَ وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا

الشروح
قوله : ( باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) كذا ترجم بلفظ المتن ، وكأنه أشار إلى ترجيح الرواية بالواو .
قوله : ( عن سعد بن عبيدة ) كذا يقول شعبة ، يدخل بين علقمة بن مرثد وأبي عبد الرحمن سعد بن عبيدة . – ص 693 – وخالفه سفيان الثوري فقال : ” عن علقمة عن أبي عبد الرحمن ” ولم يذكر سعد بن عبيدة . وقد أطنب الحافظ أبو العلاء العطار في كتابه ” الهادي في القرآن ” في تخريج طرقه ، فذكر ممن تابع شعبة ومن تابع سفيان جمعا كثيرا ، وأخرجه أبو بكر بن أبي داود في أول الشريعة له وأكثر من تخريج طرقه أيضا ، ورجح الحفاظ رواية الثوري وعدوا رواية شعبة من المزيد في متصل الأسانيد . وقال الترمذي كأن رواية سفيان أصح من رواية شعبة . وأما البخاري فأخرج الطريقين فكأنه ترجح عنده أنهما جميعا محفوظان ، فيحمل على أن علقمة سمعه أولا من سعد ثم لقي أبا عبد الرحمن فحدثه به ، أو سمعه مع سعد من أبي عبد الرحمن فثبته فيه سعد ، ويؤيد ذلك ما في رواية سعد بن عبيدة من الزيادة الموقوفة وهي قول أبي عبد الرحمن ” فذلك الذي أقعدني هذا المقعد ” كما سيأتي البحث فيه . وقد شذت رواية عن الثوري بذكر سعد بن عبيدة فيه ، قال الترمذي ” حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى القطان حدثنا سفيان وشعبة عن علقمة عن سعد بن عبيدة به ” وقال النسائي ” أنبأنا عبيد الله بن سعيد حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان أن علقمة حدثهما عن سعد ” قال الترمذي قال محمد بن بشار : أصحاب سفيان لا يذكرون فيه سعد بن عبيدة وهو الصحيح اه . وهكذا حكم علي بن المديني على يحيى القطان فيه بالوهم ، وقال ابن عدي : جمع يحيى القطان بين شعبة وسفيان ، فالثوري لا يذكر في إسناده سعد بن عبيدة . وهذا مما عد في خطأ يحيى القطان على الثوري . وقال في موضع آخر : حمل يحيى القطان رواية الثوري على رواية شعبة فساق الحديث عنهما ، وحمل إحدى الروايتين على الأخرى فساقه على لفظ شعبة ، وإلى ذلك أشار الدارقطني . وتعقب بأنه فصل بين لفظيهما في رواية النسائي فقال : ” قال شعبة خيركم وقال سفيان أفضلكم ” . قلت : وهو تعقب واه ، إذ لا يلزم من تفصيله للفظهما في المتن أن يكون فصل لفظهما في الإسناد ” قال ابن عدي : يقال إن يحيى القطان لم يخطئ قط إلا في هذا الحديث . وذكر الدارقطني أن خلاد بن يحيى تابع يحيى القطان عن الثوري على زيادة سعد بن عبيدة وهي رواية شاذة ، وأخرج ابن عدي من طريق يحيى بن آدم عن الثوري وقيس بن الربيع ، وفي رواية عن يحيى بن آدم عن شعبة وقيس بن الربيع جميعا عن علقمة عن سعد بن عبيدة قال : وكذا رواه سعيد بن سالم القداح عن الثوري ومحمد بن أبان كلاهما عن علقمة بزيادة سعد وزاد في إسناده رجلا آخر كما سأبينه ، وكل هذه الروايات وهم ، والصواب عن الثوري بدون ذكر سعد وعن شعبة بإثباته .
قوله : ( عن عثمان ) في رواية شريك عن عاصم بن بهدلة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود أخرجه ابن أبي داود بلفظ : ” خيركم من قرأ القرآن وأقرأه ” وذكره الدارقطني وقال : الصحيح عن أبي عبد الرحمن عن عثمان . وفي رواية خلاد بن يحيى عن الثوري بسنده قال : ” عن أبي عبد الرحمن عن أبان بن عثمان عن عثمان ” قال الدارقطني : هذا وهم ، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون السلمي أخذه عن أبان بن عثمان عن عثمان ثم لقي عثمان فأخذه عنه ، وتعقب بأن أبا عبد الرحمن أكثر من أبان . وأبان اختلف في سماعه من أبيه أشد مما اختلف في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان فبعد هذا الاحتمال . وجاء من وجه آخر كذلك أخرجه ابن أبي داود من طريق سعيد بن سلام ” عن محمد بن أبان سمعت علقمة يحدث عن أبي عبد الرحمن عن أبان بن عثمان عن عثمان ” فذكره وقال : تفرد به سعيد بن سلام يعني عن محمد بن أبان قلت : وسعيد ضعيف ، وقد قال أحمد : حدثنا حجاج بن محمد عن شعبة قال : لم يسمع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان وكذا نقله أبو عوانة في صحيحه عن شعبة ثم قال : اختلف أهل التمييز في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان ونقل ابن أبي داود عن يحيى بن معين مثل ما قال شعبة . وذكر الحافظ أبو العلاء أن مسلما سكت عن إخراج هذا الحديث في صحيحه . قلت : قد وقع في بعض – ص 694 – الطرق التصريح بتحديث عثمان لأبي عبد الرحمن ، وذلك فيما أخرجه ابن عدي في ترجمة عبد الله بن محمد بن أبي مريم من طريق ابن جريج عن عبد الكريم عن أبي عبد الرحمن ” حدثني عثمان ” وفي إسناده مقال ، لكن ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة ، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج ، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور ، فدل على أنه سمعه في ذلك الزمان ، وإذا سمعه في ذلك الزمان ولم يوصف بالتدليس اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه وهو عثمان – رضي الله عنه – ولا سيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان ، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره ، فكان هذا أولى من قول من قال : إنه لم يسمع منه .
قوله : ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) كذا للأكثر وللسرخسي ” أو علمه ” وهي للتنويع لا للشك ، وكذا لأحمد عن غندر عن شعبة وزاد في أوله ” إن ” وأكثر الرواة عن شعبة يقولونه بالواو ، وكذا وقع عند أحمد عن بهز وعند أبي داود عن حفص بن عمر كلاهما عن شعبة وكذا أخرجه الترمذي من حديث علي وهي أظهر من حيث المعنى لأن التي بأو تقتضي إثبات الخيرية المذكورة لمن فعل أحد الأمرين فيلزم أن من تعلم القرآن ولو لم يعلمه غيره أن يكون خيرا ممن عمل بما فيه مثلا وإن لم يتعلمه ، ولا يقال يلزم على رواية الواو أيضا أن من تعلمه وعلمه غيره أن يكون أفضل ممن عمل بما فيه من غير أن يتعلمه ولم يعلمه غيره ، لأنا نقول يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم ، والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط ، بل من أشرف العمل تعليم الغير ، فمعلم غيره يستلزم أن يكون تعلمه ، وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفع متعد ، ولا يقال لو كان المعنى حول النفع المتعدي لاشترك كل من علم غيره علما ما في ذلك ، لأنا نقول القرآن أشرف العلوم فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن وإن علمه فيثبت المدعى . ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل ، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله : ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع ، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال تعالى : فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها فإن قيل : فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه قلنا : لا ، لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب ، فكان الفقه لهم سجية ، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك ، لا من كان قارئا أو مقرئا محضا لا يفهم شيئا من معاني ما يقرؤه أو يقرئه . فإن قيل فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا ، قلنا حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل ، فلعل ” من ” مضمرة في الخبر ، ولا بد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنف منهم . ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك ، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه ، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن ، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عينا .
قوله : ( قال : وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج ) أي حتى ولي الحجاج على العراق – ص 695 – قلت : بين أول خلافة عثمان وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر وبين آخر خلافة عثمان وأول ولاية الحجاج العراق ثمان وثلاثون سنة ، ولم أقف على تعيين ابتداء إقراء أبي عبد الرحمن وآخره فالله أعلم بمقدار ذلك ، ويعرف من الذي ذكرته أقصى المدة وأدناها ، والقائل ” وأقرأ إلخ ” هو سعد بن عبيدة فإنني لم أر هذه الزيادة إلا من رواية شعبة عن علقمة ، وقائل ” وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا ” هو أبو عبد الرحمن ، وحكى الكرماني أنه وقع في بعض نسخ البخاري ” قال سعد بن عبيدة وأقرأني أبو عبد الرحمن ” قال : وهي أنسب لقوله ” وذاك الذي أقعدني إلخ ” أي أن إقراءه إياي هو الذي حملني على أن قعدت هذا المقعد الجليل اه . والذي في معظم النسخ ” وأقرأ ” بحذف المفعول وهو الصواب ، وكأن الكرماني ظن أن قائل ” وذاك الذي أقعدني ” هو سعد بن عبيدة ، وليس كذلك بل قائله أبو عبد الرحمن ، ولو كان كما ظن للزم أن تكون المدة الطويلة سيقت لبيان زمان إقراء أبي عبد الرحمن لسعد بن عبيدة ، وليس كذلك بل إنما سيقت لبيان طول مدته لإقراء الناس القرآن ، وأيضا فكان يلزم أن يكون سعد بن عبيدة قرأ على أبي عبد الرحمن من زمن عثمان ، وسعد لم يدرك زمان عثمان ، فإن أكبر شيخ له المغيرة بن شعبة وقد عاش بعد عثمان خمس عشرة سنة ، وكان يلزم أيضا أن تكون الإشارة بقوله ” وذلك ” إلى صنيع أبي عبد الرحمن ، وليس كذلك بل الإشارة بقوله ذلك إلى الحديث المرفوع ، أي أن الحديث الذي حدث به عثمان في أفضلية من تعلم القرآن وعلمه حمل أبا عبد الرحمن أن قعد يعلم الناس القرآن لتحصيل تلك الفضيلة ، وقد وقع الذي حملنا كلامه عليه صريحا في رواية أحمد عن محمد بن جعفر وحجاج بن محمد جميعا عن شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة قال : ” قال أبو عبد الرحمن فذاك الذي أقعدني هذا المقعد ” وكذا أخرجه الترمذي من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة وقال : فيه ” مقعدي هذا ” ، قال : وعلم أبو عبد الرحمن القرآن في زمن عثمان حتى بلغ الحجاج ، وعند أبي عوانة من طريق بشر بن أبي عمرو وأبي غياث وأبي الوليد ثلاثتهم عن شعبة بلفظ : ” قال أبو عبد الرحمن فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا ، وكان يعلم القرآن ” والإشارة بذلك إلى الحديث كما قررته ، وإسناده إليه إسناد مجازي ، ويحتمل أن تكون الإشارة به إلى عثمان وقد وقع في رواية أبي عوانة أيضا عن يوسف بن مسلم عن حجاج بن محمد بلفظ : ” قال أبو عبد الرحمن : وهو الذي أجلسني هذا المجلس ” وهو محتمل أيضا .

 

سورة الأعراف آية 0086 – 00685 ت – تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل – تفسير البيضاوي


* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦٓ أَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿٨٠ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴿٨١وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓا۟ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴿٨٢ فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُۥٓ إِلَّا ٱمْرَأَتَهُۥ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ ﴿٨٣ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴿٨٤ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّـهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُۥ ۖ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا۟ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا۟ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٨٥وَلَا تَقْعُدُوا۟ بِكُلِّ صِرَٰطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّـهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَٱذْكُرُوٓا۟ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَٱنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴿٨٦

{ وَلُوطاً } أي وأرسلنا لوطاً. { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } وقت قوله لهم أو واذكر لوطاً وإذ بدل منه. { أَتَأَتُونَ الفَاحِشَةَ } توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح. { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ العَالَمِينَ } ما فعلها قبلكم أحد قط. والباء للتعدية ومن الأولى لتأكيد النفي والاستغراق، والثانية للتبعيض. والجملة استئناف مقرر للإِنكار كأنه وبخهم أولاً بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ.

{ أَنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ } بيان لقوله: { أَتَأتون الفاحشة } وهو أبلغ في الإِنكار والتوبيخ، وقرأ نافع وحفص «إنكم» على الإِخبار المستأنف، وشهوة مفعول له أو مصدر في موقع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة، وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع، لا قضاء الوطر. { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } إضراب عن الإِنكار إلى الإِخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإِسراف في كل شيء، أو عن الإِنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم، أو عن محذوف مثل لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإِسراف.

{ وَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتكُمْ } أي ما جاؤوا بما يكون جواباً عن كلامه، ولكنهم قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه فيمن معه من المؤمنين من قريتهم والاستهزاء بهم فقالوا: { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَّهِرُونَ } أي من الفواحش.

{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } أي من آمن به. { إلاَّ امْرَأتَهُ } استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر. { كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ } من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا والتذكير لتغليب الذكور.

{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } أي نوعاً من المطر عجيباً وهو مبين بقوله:
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ }
[الحجر: 74] { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ } روي: أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام نزل بالأردن، فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة، فلم ينتهوا عنها فأمطر الله عليهم الحجارة فهلكوا. وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم.

{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَـٰهُمْ شُعَيْباً } أي وأرسلنا إليهم، وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله شعيب بن ميكائيل بن بسجر بن مدين، وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه. { قَالَ يَـا قَوْمٌ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } يريد المعجزة التي كانت له وليس في القرآن أنها ما هي، وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام التنين وولادة الغنم التي دفعها إليه الدرع خاصة وكانت الموعودة له من أولادها، ووقوع عصا آدم على يده في المرات السبع متأخرة عن هذه المقاولة، ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصاً لنبوته.

{ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ } أي آلة الكيل على الإِضمار، أو إطلاق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش لقوله: { وَٱلْمِيزَانَ } كما قال في سورة «هود» { أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } أو الكيل ووزن الميزان، ويجوز أن يكون الميزان مصدراً كالميعاد. { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } ولا تنقصوهم حقوقهم، وإنما قال أشياءهم للتعميم تنبيهاً على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير. وقيل كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه. { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } بالكفر والحيف. { بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا } بعدما أصلح أمرها أو أهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع، أو أصلحوا فيها والإِضافة إليها كالإِضافة في { بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }. { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقاً أو في الإِنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال.

{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِرٰطٍ تُوعِدُونَ } بكل طريق من طرق الدين كالشيطان، وصراط الحق وإن كان واحداً لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام، وكانوا إذا رأوا أحداً يسعى فى شيء منها منعوه. وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيباً إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك ويوعدون لمن آمن به. وقيل كانوا يقطعون الطريق. { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } يعني الذي قعدوا عليه فوضع الظاهر موضع المضمر بياناً لكل صراط، ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحاً لما كانوا عليه أو الإِيمان بالله. { مَنْ ءامَنَ بِهِ } أي بالله، أو بكل صراط على الأول، ومن مفعول تصدون على إعمال الأقرب ولو كان مفعول توعدون لقال وتصدونهم وتوعدون بما عطف عليه في موقع الحال من الضمير في تقعدوا. { وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } وتطلبون لسبيل الله عوجاً بإلقاء الشبه، أو وصفها للناس بأنها معوجة. { وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً } عَدَدَكُمْ أو عُدَدَكُمْ. { فَكَثَّرَكُمْ } بالبركة في النسل أو المال. { وَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } من الأمم قبلكم فاعتبروا بهم.

سورة الأعراف آية 0085 – 00685 ت – تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل – تفسير البيضاوي


* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦٓ أَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿٨٠ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴿٨١وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓا۟ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴿٨٢ فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُۥٓ إِلَّا ٱمْرَأَتَهُۥ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ ﴿٨٣ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴿٨٤ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّـهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُۥ ۖ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا۟ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا۟ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٨٥وَلَا تَقْعُدُوا۟ بِكُلِّ صِرَٰطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّـهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَٱذْكُرُوٓا۟ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَٱنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴿٨٦

{ وَلُوطاً } أي وأرسلنا لوطاً. { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } وقت قوله لهم أو واذكر لوطاً وإذ بدل منه. { أَتَأَتُونَ الفَاحِشَةَ } توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح. { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ العَالَمِينَ } ما فعلها قبلكم أحد قط. والباء للتعدية ومن الأولى لتأكيد النفي والاستغراق، والثانية للتبعيض. والجملة استئناف مقرر للإِنكار كأنه وبخهم أولاً بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ.

{ أَنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ } بيان لقوله: { أَتَأتون الفاحشة } وهو أبلغ في الإِنكار والتوبيخ، وقرأ نافع وحفص «إنكم» على الإِخبار المستأنف، وشهوة مفعول له أو مصدر في موقع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة، وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع، لا قضاء الوطر. { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } إضراب عن الإِنكار إلى الإِخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإِسراف في كل شيء، أو عن الإِنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم، أو عن محذوف مثل لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإِسراف.

{ وَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتكُمْ } أي ما جاؤوا بما يكون جواباً عن كلامه، ولكنهم قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه فيمن معه من المؤمنين من قريتهم والاستهزاء بهم فقالوا: { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَّهِرُونَ } أي من الفواحش.

{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } أي من آمن به. { إلاَّ امْرَأتَهُ } استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر. { كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ } من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا والتذكير لتغليب الذكور.

{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } أي نوعاً من المطر عجيباً وهو مبين بقوله:
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ }
[الحجر: 74] { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ } روي: أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام نزل بالأردن، فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة، فلم ينتهوا عنها فأمطر الله عليهم الحجارة فهلكوا. وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم.

{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَـٰهُمْ شُعَيْباً } أي وأرسلنا إليهم، وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله شعيب بن ميكائيل بن بسجر بن مدين، وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه. { قَالَ يَـا قَوْمٌ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } يريد المعجزة التي كانت له وليس في القرآن أنها ما هي، وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام التنين وولادة الغنم التي دفعها إليه الدرع خاصة وكانت الموعودة له من أولادها، ووقوع عصا آدم على يده في المرات السبع متأخرة عن هذه المقاولة، ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصاً لنبوته.

{ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ } أي آلة الكيل على الإِضمار، أو إطلاق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش لقوله: { وَٱلْمِيزَانَ } كما قال في سورة «هود» { أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } أو الكيل ووزن الميزان، ويجوز أن يكون الميزان مصدراً كالميعاد. { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } ولا تنقصوهم حقوقهم، وإنما قال أشياءهم للتعميم تنبيهاً على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير. وقيل كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه. { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } بالكفر والحيف. { بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا } بعدما أصلح أمرها أو أهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع، أو أصلحوا فيها والإِضافة إليها كالإِضافة في { بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }. { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقاً أو في الإِنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال.

{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِرٰطٍ تُوعِدُونَ } بكل طريق من طرق الدين كالشيطان، وصراط الحق وإن كان واحداً لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام، وكانوا إذا رأوا أحداً يسعى فى شيء منها منعوه. وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيباً إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك ويوعدون لمن آمن به. وقيل كانوا يقطعون الطريق. { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } يعني الذي قعدوا عليه فوضع الظاهر موضع المضمر بياناً لكل صراط، ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحاً لما كانوا عليه أو الإِيمان بالله. { مَنْ ءامَنَ بِهِ } أي بالله، أو بكل صراط على الأول، ومن مفعول تصدون على إعمال الأقرب ولو كان مفعول توعدون لقال وتصدونهم وتوعدون بما عطف عليه في موقع الحال من الضمير في تقعدوا. { وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } وتطلبون لسبيل الله عوجاً بإلقاء الشبه، أو وصفها للناس بأنها معوجة. { وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً } عَدَدَكُمْ أو عُدَدَكُمْ. { فَكَثَّرَكُمْ } بالبركة في النسل أو المال. { وَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } من الأمم قبلكم فاعتبروا بهم.